شعار قسم مدونات

الاقتصاد ورهانات الصعود والنزول لما بعد كورونا

blogs كورونا

خلال الأيام القليلة الماضية، كان الحديث على المستويين الوطني والدولي منصبا حول الهجرة والمهاجرين والحدود. فمع انكماش كبريات اقتصادات العالم بأوروبا خاصة، ومع ظهور صراع اقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من جهة، وصراعات سياسية بين دول الخليج فيما بينها ومع كل من إيران وتركيا من جهة أخرى، حاولت جميع الأطراف البحث عن موطئ قدم داخل ساحات المعارك بكل من اليمن وليبيا وسوريا والعراق، متناسين العدد الهائل من المهاجرين الفارين من الحروب والذين يضعون أوروبا كوجهة نموذجية للعيش الكريم. ضمن هذه الحلقة المتسمة بالتعقيد، ظهرت مجموعة من الأصوات المطالبة بطرد جميع المهاجرين القانونيين وما دونهم باتجاه بلدانهم كي يتسنى لمواطني أوروبا والصين وأمريكا العيش في رفاهية.

تلك الأصوات كانت قد وجدت لها أذان صاغية لدرجة أن الاتحاد الأوروبي بدأ في سن قوانين تساهم في تشديد الحدود على الدول التي لا تتعامل بمرونة من أجل استقبال مواطنين يعيشون على أرض أوروبا بدون سند قانوني. وباستعمال ورقة الاقتصاد، عمد دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على الدول التي ترفض استرجاع مواطنيها بداعي الحرمان من المساعدات المقدمة لهم. بيد أن تشديد الحدود الخارجية وإلغائها داخليا قد سهل من انتشار "كورونا" القاتل والذي كشف عن هشاشة الأنظمة الصحية وعدم قدرتها على مواجهة الحروب الوبائية، لتبدأ عملية التمييز والفرز بين من يستحق التطبيب زمن كورونا ومن لا يستحق ذلك.

ظهر نوع آخر من الرأسمالية الهمجية التي لا تظهر أي ود لأخلاق الإنسانية كما كانت تدعي أوروبا. ففرنسا مثلا، قرصنت شحنة قادمة من السويد لصالح إيطاليا، وإسبانيا استولت على شحنة أدوية كانت قد اشترتها المغرب قبل ظهور الفايروس

ففي إيطاليا وإسبانيا مثلا، تم التخلي عن كبار السن لمصيرهم من دون أن يتحرك الضمير الأوروبي لحماية الشعوب في تقرير مصيرها. فهناك مثلا، من ترك العشرات من الشيوخ تحت رحمة الفايروس: أما الحياة واستكمال ما تبقى منها معاقا، أو الوفاة بدون أقارب أوحتى دفن كريم. سبب كل هذا، أن دولا مثل بريطانيا وأمريكت كانتا سباقتين في إثراء المشهد الداخلي بما أسموه مناعة القطيع، وهي استراتيجية اقتصادية بالدرجة الأولى تستهدف قتل نصف الشعوب وخاصة كبار السن كي يعيش النصف الآخر حياة سعيدة. والأهم من كل هذا، أن مبالغ كثيرة سيتم جمعها وحصيلة ما بعد كورونا، باعتبار الخسائر التي كان سيكبدها الفايروس لمؤسسات الرعاية الاجتماعية وصناديق التقاعد. وإذا كان الاقتصاد قد طبع على قلوب وعقول هؤلاء، فإن الاستهتار كان له دور كبير في نشر الذعر بين مواطني كل من إسبانيا وإيطاليا، وبخاصة حضور جماهير فريقين خلال مباراة ايوب كانت في الإقليم الأكثر معاناة مع هذا الوباء.

بعد تفشي الوباء، كانت دول قليلة أكثر حنكة في التعامل مع الفايروس وتبعاته. وقد أبلت المملكة المغربية لحد الساعة البلاء الحسن في تجنيد كل الإمكانات المتاحة من أجل محاصرة الوباء، عن طريق وقف الرحلات الدولية، ومنع الانتقال بين المدن، وإعلان الحجر الصحي. بالموازاة مع هذه الدينامية، شهد الجانب الإنساني والاقتصادي مجموعة من المبادرات همت بالدرجة الأولى المواطن البسيط الذي توقف قوت يومه مع الحجر الصحي. هي مبادرات جد شجاعة من ملك البلاد ساهمت في وقف نزيف استعصى على دول أخرى التحكم في مخرجاته.

خلال هذه اللحظات، قد ظهر نوع آخر من الرأسمالية الهمجية التي لا تظهر أي ود لأخلاق الإنسانية كما كانت تدعي أوروبا. ففرنسا مثلا، قرصنت شحنة قادمة من السويد لصالح إيطاليا، وإسبانيا استولت على شحنة أدوية كانت قد اشترتها المغرب قبل ظهور الفايروس وأمريكا أخذت كل شيء عن طريق رشي الشركات الصينية تارة وعن طريق قرصنة أوروبا تارة أخرى. في ظل أزمة خانقة، تظهر معادن الدول. إلا أن هذه الفترة من تاريخ العالم الحديث، قد تشكل فرصة تاريخية نحو إقلاع مجموعة من الدول التي كانت حتى عهد قريب تصنف ضمن خانة دول نامية. بالمغرب مثلا، رغم قدراته الاقتصادية المحدودة، استطاع أن يبدأ في التفكير الجدي في صناعة أجهزة تنفس بإمكانها منافسة أجهزة تباع بأثمان خيالية على مستوى العالم. والحال هذا يذكرني بشق من تاريخ فنلندا الحديث، بحيث استطاعت أن تنطلق من جديد بعد خروجها خاسرة في حربها مع روسيا، إلا أن فنلندا اليوم أصبحت اقتصاديا رقما صعبا ضمن المنظومة الدولية.

فنلندا لم تنطلق من فراغ. فقد استثمرت في التعليم، ماديا ومعنويا. كما أنها استعانت باليد العاملة المحلية وتم تخريج طلبة بحيث كان هدفها هو ملئ فراغات سوق الشغل والعمل داخل مصانع هدفها في البداية هو سوق الشغل المحلية ومن تم الانفتاح على الاتحاد الأوروبي. الاتحاد الأفريقي الآن يشكل سوقا مهما بالنسبة للمغرب. كما أن نزول سعر البترول والذي لا يبدو أنه سيتوقف عند هذا الحد، قد يسهم في إقلاع المملكة المغربية نحو غد أفضل. لا بد من إعادة تركيب سياسة اقتصادية مبنية على التعددية وبعيدة عن التدخلات الغربية، كما وجب إعادة التفكير في السياسات الاجتماعية المتبعة في هذا البلد.

أهم نقطة، يجب الإشارة إليها، هو أنه قد آن الأوان لمساهمة القطاعات الفاعلة في البحث العلمي، واقتصاد الدولة رهين بتعليم الناشئ والاهتمام بقطاع التربية والتكوين، وكذلك بسياسة تحمل الدولة فيها الأحزاب المسؤولية. لقد أظهرت قطاعات كبيرة مدى تجاوبها مع مبادرات اجتماعية هادفة، كما أن الدولة تحملت مسؤولياتها تجاه مواطنيها، وجب الآن التفكير وفي تطابق تام مع الحجر الصحي في الاستراتيجيات الممكن اتباعها على المدى المتوسط من أجل مباشرة الإقلاع. فقد أظهرت التحديات أن في ضل الوضع الراهن، حيث تنفع لا أوروبا ولا الصين، أن ميزان القوة يكمن في مدى تناسق المكونات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية للدولة. فيروس عابر للحدود قد غير موازين القوة وبدأ ينهك أقوى الاقتصادات العالمية ليظهر للجميع وهم تلك الحدود المشيدة على رأسمال غير موجود: إنسانية الإنسان زمن المحن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.