شعار قسم مدونات

المقارنة.. كيف نكف عن التخريب الذاتي لأنفسنا؟

blogs تأمل

في مرحلة من مراحل حياتي المتعثرة كنت لا أجتمع في نفس المكان مع أشخاص آخرين لأكثر من دقيقتين دون وضع افتراضات حول كيف يمكن أن يكونوا أفضل مني، بمقارنة كل شيء من المظهر إلى النجاح الوظيفي، بغض النظر عن مقدار أو مدى معرفتي عنهم. وكل هذه الافتراضات حول الفروقات الفردية بيني وبينهم كانت تخفض قيمتي الذاتية شيئاً فشيئاً، فتتدهور حالتي المزاجية، خاصة وقت التفكير في عمري الذي يهرول أمامي وأنا لم أرتبط، ولم أباشر حتى حياتي العملية بعد استكمال دراساتي العليا.. كانت المقارنة حينها لعبة مرهقة وخاسرة، وضعت فيها نقاط ضعفي في مواجهة نقاط قوة الآخرين.

هذا هو فخ المقارنة وهو عبارة عن تخريب ذاتي للحكم على أنفسنا مقابل الآخرين الذين نتعامل معهم، حيث نستخدم إشارات سطحية لقياس قيمتنا الذاتية، بالتالي نقع في دائرة من التقصير دائماً، فنشعر أننا لسنا جيدين أو ناجحين بما فيه الكفاية.. وهي معاملة غير عادلة للذات لما فيها من تجاهل نقاط القوة والتركيز فقط على نقاط الضعف، التي نتصيدها من رصد نقاط قوة الآخرين الظاهرة لنا.. وخطأ كبير نقع فيه، فالسعادة الظاهرية ليست بالضرورة مؤشرا على الحالة العامة للإنسان.. إذا نحن نركز فقط على جوانب معينة من الشخص الذي نقارن أنفسنا به، وبسبب النظر فقط لهذه الجوانب الرائعة من حياتهم، يصبح الشخص بمثابة الفكرة الخيالية المتكلفة (والوهم) الذي نصنعه بداخل عقولنا.. نحن من اختار النظر فقط إلى السمات التي تثير إعجابنا، بينما نغض الطرف عن الصفات الأخرى السيئة وجوانب الحياة البائسة والتعيسة التي قد يعيشها هذا الفرد بشكل أو آخر.

حاول أيضا التواصل مع أشخاص تبدو حياتهم ناجحة دائما، و اطلب منهم التحدث عن حياتهم، في معظم الحالات سيشاركك أحدهم الحقيقة، والتي قد تكون "واقعية" أكثر بكثير مما تظن، فالناس لديهم مشاكل

وقد أثبت صاحب نظرية المقارنة الاجتماعية "ليون فستنغر" (وهي واحدة من أكبر المساهمات في مجال علم النفس الاجتماعي)؛ "أن البشر لا يستطيعون في الواقع تعريف أنفسهم بشكل جوهري أو مستقل، يمكنهم فقط تعريف أنفسهم بناء على المقارنة بشخص آخر، فعندما يتعلق الأمر بالمسائل الكبرى المتعلقة بالهوية والذات.. نحن بحاجة إلى النظر إلى أشخاص آخرين". وهذا وارد إلى حد بعيد فكلما كنت أكثر شبهاً بشخص آخر بطريقة تعتقد فيها أنه مهم؛ تميل إلى مقارنة نفسك بهذا الشخص، وعندما تتوقف عن مقارنة نفسك مع أشخاص آخرين، فإنك غالباً ما تختبر العداوة والانتقاص اتجاه هؤلاء؛ طالما أن الاستمرار في مقارنة نفسك معهم تؤدي إلى نتائج غير سارة.
 
لذا ضع نصب عينيك أن مقارنة نفسك بالآخرين ليست بالأمر الذي يعمل لصالحك، بل على العكس، إنها تسبب العديد من التأثيرات السلبية على أفكارك ومشاعرك، ستجد أنك في حاجة إلى أدوات قياس أخرى للنجاحات التي تحققها في حياتك، وستشعر وتعبر عن الامتنان للأشياء الجيدة التي تمتلكها، مما يساعدك ذلك على نقل تركيزك من الآخرين إلى الأشياء الإيجابية والجيدة التي وهبها لك الله، حينها ستجد أنك تكتشف المزيد والمزيد منها عندما تتوقف عن شغل وقتك بالنظر لما يملكه ويتميز به الآخرون. وبدلاً من مقارنة نفسك بالآخرين قارن نفسك بالمكان الذي كنت فيه قبل أعوام خلت، بالتالي يمكنك التركيز على حياتك الخاصة والتفكير في أهدافك والعمل على تحقيقها، هذا أكثر انتاجية من التركيز على ما يفعله الآخرون..

ثم إنه إجحاف في حق ذاتك عندما تقارن إنجازاتك خلال فترة وجيزة بمنجزات عمر بأكمله لشخص آخر: من المدهش أن تكون في عجلة من أمرك لتنجح بين عشية وضحاها خلال مرحلة التخطيط والبدء، لأن أي شخص ناجح في عمله هو مثال على عقود من التفاني، كما قد يكون لدى معظم الأشخاص الذين تقارن نفسك بهم حظ البداية الهامة، لذلك تبدو انجازاتهم مثيرة للإعجاب، قد تكون حيث يجب أن تكون لتبني نفسك خلال هذه المرحلة؛ كل النكسات والعوائق والإخفاقات هي جزء من عملية نموك المبهر. ورغم أن المقارنة ليست دائماً أمراً سيئاً، حيث أن مقارنة نفسك بالآخرين تساعدك على الاستمرار في الوصول لأهدافك وعدم قبول المستوى المتوسط، لكنها تصبح غير صحية عندما تكون مهووساً بها بشكل يومي مما يمنعك من عيش حياتك الأفضل هنا والآن..

ذلك أن المقارنة تركز على شخص آخر وأنت تعلم أنه يمكنك التحكم فقط بحياتك، وليس بحياة الآخرين، بتعبير أدق أنت تهدر وقتاً ثميناً يركز على حياة الآخرين أكثر من حياتك، لذلك أعد توجيه نفسك وبمجرد أن تبدأ بمقارنة نفسك بشخص آخر؛ استبدل الأفكار المعتادة مثل: "لديه كل ما أتمناه وهو سعيد في عمله وحياته الزوجية أكثر مني"… استبدلها بعبارة: (اللهم بارك فيه ولا تضره)، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كما أن هناك الكثير من الطرق التي تستطيع من خلالها المصالحة مع نفسك، وبدل مقارنة نفسك بالآخرين فكر بالامتنان لما لديك، فقد قال الله عز وجل: "نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، وقال: "وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ"، فلله حكمة في كل ما يفعله جل شأنه ، ولا يملك العبد إلا الصبر.

حاول أيضا التواصل مع أشخاص تبدو حياتهم ناجحة دائما، واطلب منهم التحدث عن حياتهم، في معظم الحالات سيشاركك أحدهم الحقيقة، والتي قد تكون "واقعية" أكثر بكثير مما تظن، فالناس لديهم مشاكل؛ انفصال أو انتكاسات وعوائق وظيفية، كذلك لديهم حياة مملة في بعض الأحيان، وستحصل حينها على معلومات صادقة وبعيدة عن الزيف، بالتالي تستطيع وضع نفسك مكان الآخرين والشعور بما لديهم من مشاكل رغم كل ما يظهر في حياتهم من سعادة. من الأسباب التي تدفعك لمقارنة نفسك هو شعورك بعقدة النقص التي تدفعك لأن تفكر بمبدأ: "هي (هو) ناجح وأنا فاشل".. تقول لنفسك "أنه لا يوجد ما يكفي من المكانة، الجمال، المال، الأحبة، السعادة، الشباب…" تلك هي العقد التي تدمرك، فتصبح مشلول الحركة، لا يمكنك التصرف ولا المضي قدماً وتحسين ذاتك، لذا تجنب التفكير بالأبيض والأسود فقط وتبنى الخيارات المتاحة وفكّر بأنه يمكنك أن تكون ناجحاً في عملك وأن يكون زميلك ناجح في نفس الوقت، بأن يكون لصديقك علاقة زواج ناجحة ولديك علاقة ناجحة أيضاً.

ثم إن التعامل بطريقة مُرضِية مع شعورك بتميز الآخرين عليك يجعلك تعمل على أن تكون بدورك شخصية أكثر مراعاة لمشاعر الآخرين وحريصًا على التعامل مع الجميع بطريقة لطيفة، لذا كن طرفا محالفا لنجاحات الآخرين وشاركهم الاحتفال، فعندما تحتفل بانجازات شخص آخر، ستسمح لنفسك بإلغاء الحاجة للمقارنة، بالإضافة إلى ذلك يمكنك جذب المزيد من الامتنان والفرص، حيث يحتفل الناجحون بالناجحين الآخرين، لأنهم يفهمون رحلتهم وتضحياتهم من أجل تحقيق هدف ما. وأهم ما في الأمر أن تفكر في الأفعال التي يمكنك القيام بها من أجل الاقتراب من هذه الأهداف، وأولها المسارعة بوضع خطة من أجل العمل على تحقيقها في حياتك، ولا يتم كل ذلك إلا بالتركيز على نقاط قوتك الفريدة من نوعها إذ لديك مواهب ومهارات وقدرات تميزك عن غيرك، مع ذلك فإنك تلغي المهارات الأكثر أهمية عند مقارنة نفسك مع آخرين، تذكر أن أفضل الناجحين لم يقلدوا ناجحاً آخر.. بل يعرفون قيمة مأثرهم ومهاراتهم الفريدة.

ومن لا يحاول طلاء جدارية حياته القاتمة بألوان الارادة الزاهية ويشغل نفسه بمتابعة أحوال الآخرين، فذلك يضيع على نفسه فرصة الاستمتاع باللحظة الراهنة وما تهديها له، لأن دائرة المقارنات لا تنتهي وستجد دوما من هو أفضل منك، لذا فإضاعة الوقت في المقارنات مسألة غير مجدية إذ لا نهاية لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.