شعار قسم مدونات

فيروس كورونا وعالم ما بعد الرأسمالية المعاصرة

blogs كورونا

"الخوف والفوضى هما محفّزان لكلّ قفزة جديدة إلى الأمام" من شعارات الرأسمالية المعاصرة. يُعتبر كتاب "عقيدة الصدمة" للكندية نعومي كلاين، الذي نُشر عام ٢٠٠٧م، من أهم الكتب التي عرضت الكوارث التي افتعلتها الرأسمالية في العالم.. بدأت فيه الكاتبة باستعراض كيف كانت تُستعمل تقنية "المعالجة بالصدمة" على السجناء لتفريغ عقولهم من كل الأفكار السابقة وتعبئتها بأفكار جديدة. العلاج بالصدمة هي مجموعة تقنيات طوّرها باحثون يعملون تحت إشراف وتمويل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

حيث تُستعمل تقنيات دقيقة ووحشية، بدءًا من إدخال السجين في العزلة التامّة، بحيث تُحرم الحواسّ كليًا من استقبال أي معلومات بتغطية العينين، وإغلاق الأذنين بسمّاعات عازلة لكل الأصوات وتكبيل الجسد بطريقة لا يستطيع معها الحراك، وتركه مدة من الزمن كذلك، حتى يفقد السجين إحساسه بجسده وبمن حوله. ثم فجأةً يُحفّز الجسد بصدمات مُفرطة في القوّة كالأضواء المبهرة، والموسيقى الصاخبة، والصدمات الكهربائية العنيفة، والضرب المبرح. وهذه المرحلة تُسمّى "مرحلة التطويع"، والذي هو تحفيزُ نوعٍ من الإعصار في الدماغ: فيشتدّ الخوف في نفس السجين إلى درجة يصبح معها عاجزًا عن التفكير بعقلانية، أو حماية مصالحه الخاصّة، كالأسرار وغيرها. وهذه المرحلة من العزلة التامة إلى التحفيز الشديد، تُعاد مرارًا وتكرارًا حتى يستسلم السجين نهائيّا.. ثم يُعطى السجين جرعات مدروسة من المخدرات، والمواد المهلوسة، وكلّ ذلك في سبيل إحداث صدمات نفسية عميقة، تجعل السجين في حالة من الضياع والصدمة العميقين، لتجريده من أفكاره ومعتقداته وولاءاته، أو بالأصح تفريغ عقله من كل ذلك، وهي ما يُسمى بغسل الأدمغة، ثم تعبئتها بأفكار جديدة.

الأطباء أنفسهم في حيرة شديدة، يرون شيئًا ويسمعون شيئًا آخر، الكلمة العليا هي للإعلام بعجره وبجره، فهو الذي يُشكل أفكار أكثر الناس، ويبث الرعب في قلوبهم، يعطيهم من المعلومات الصحيحة المشوبة بكثير من المعلومات المغلوطة

اسْتَلْهَم اقتصاديو الرأسمالية -أمثال ميلتون فريدمان، وأرباب مدرسة شيكاغو- تقنية "العلاج بالصدمة" التي تستخدمها السي أي آيه، في محاولة تطبيقها على شعب كامل في بلد تريد الرأسمالية فرض نظام جديد فيه وإحداث تغييرات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية. بحيث أن هذه التغييرات لا يمكن أن تحدث في الحالة العادية والطبيعية. فيُلجأ إلى إحداث صدمة لدى الشعب، وهذه الصدمة قد تكون انقلابًا أو هجومًا إرهابيًا أو انهيارًا للسوق أو العملة أو حربًا، أو حتى إعصارًا أو وباءً، ونشر الخوف والفوضى، بحيث يُترك جميع السكّان في حالة من الصدمة الجماعيّة.. فتأتي الحلول من قِبل شياطين الرأسمالية وتفرض على الشعب المصدوم النظام الجديد، الذي ليس لهذا الشعب أي مصلحة فيه، كما أنّه ليس لديه أي خيار أو حتّى إرادة في رفضه.

فأي تغيير للنظام القائم، لا بدّ أن يسبقه نوع من الفوضى والخوف والهلع، يَصدم المجتمع ثم يُفرض النظام الجديد، الذي يُمكّن الشركات العابرة للقارات من السيطرة على ثروات الناس ومقدّراتهم، الذين يكونون في حالة من الصدمة لا يستطيعون فيها التفكير بعقلانية، أو حماية مصالحهم الحقيقية، كحال السجين المُعالج بالصَّدمة في أوكار وكالة المخابرات المركزية.. يقول مايك باتلز (عميل السي أي آيه، السابق) "قدم الخوف والفوضى إلينا فرصة ذهبية"، وهو يشرح كيف ساعدت الفوضى التي تلت اجتياح العراق، شركته الأمنية الخاصّة العديمة الشهرة والخبرة، على تحقيق ربحٍ قارب المائة مليون دولار أمريكي..

يأتي فيروس كورونا المستجد، ليُحدث صدمة للعالم كله، تتعطل مصالح الناس، وتُغلق أماكن عباداتهم، ومدارس أولادهم وجامعاتهم، ويُسجنون في بيوتهم، كلهم خائف يترقّب وسائل الإعلام؛ التي لا تأتي إلا بأرقام الاصابات الجديدة، وأرقام الموتى.. المرض ينتشر بسرعة وأعداد الضحايا ترتفع يومًا بعد يوم، والاقتصاد العالمي يترنح، وخسائر البورصات بأرقام فلكية، والأطباء والعلماء يقفون عاجزين عن إيجاد دواء أو لقاح في الوقت القريب.. كل يوم نسمع بخبر يضاد ما سبقه، يخرج طبيب فيقول من أُصيب بفيروس الكورونا المستجد، يجب ألّا يُعطى "ابيوبروفين" -مخفّض حرارة- لأنه يزيد الحالة سوءً والفيروس تمكينًا، فتتبنّى هذا الرأي أعلى هيئة صحية في العالم، منظمة الصحّة العالمية، والتي تُعتبر قراراتها ومنشوراتها كتابًا مقدسًا عند أكثر الناس.

ثم يُفاجأ الناس بعد أيام يسيرة بتراجع المنظمة عن هذا الرأي، فيقع الناس في حيرة شديدة.. يخرج طبيب مرموق فيقول: إن الفيروس ليس بالخطورة التي يُشاع عنه، فيعارضه طبيب آخر مرموق أيضًا، بأنّ هذا الفيروس يُعتبر من أخطر الفيروسات في التاريخ الحديث.. فترى الناس في أمر مريج. الأطباء أنفسهم في حيرة شديدة، يرون شيئًا ويسمعون شيئًا آخر، الكلمة العليا هي للإعلام بعجره وبجره، فهو الذي يُشكل أفكار أكثر الناس، ويبث الرعب في قلوبهم، يعطيهم من المعلومات الصحيحة المشوبة بكثير من المعلومات المغلوطة. أمّا الباحثون والمثقفون الذين لا يَستَقُون معلوماتهم إلّا من المقالات العلمية المحكّمة المنشورة في المجلات المرموقة، أصبحوا في حيرة من أمرهم، يقرؤون بحثًا علميًّا اليوم، ويقرؤون غدًا بحثًا علميًّا آخر يناقض الأول، وهكذا دواليك..

وبذلك يكون فيروس كورونا المستجد، قد أحدث صدمة للعالم أجمع، ليتهيّأ العالم لنظام جديد، لم يكن له فرصة من النجاح والتطبيق لولا هذه الصدمة العالمية.. فعالم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبله..
ولله الأمر من قبل ومن بعد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.