شعار قسم مدونات

إفلاس أخلاقي.. لماذا يخشى ترمب من تعطيل النشاط الاقتصادي؟

blogs ترامب

حتى لحظة كتابة هذه المقالة، تجاوز عدد المتوفين الأمريكيين جراء فايروس كورونا 4000 قتيلاً، وسيستمر الفايروس بحصد أروح الأمريكيين حتى يتجاوز عدد القتلى الذين خلفهم هجوم 11 سبتمبر. لعل المقارنة بين الرقمين توضح السقوط الأخلاقي الأمريكي في عدم الاكتراث بالضحايا الأمريكان طالما أن المصالح الاقتصادية لا تتأثر. وفي المقابل، نشاهد الدولة الأردنية المحدودة الموارد، والتي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، تقوم بإغلاق اقتصاديها بالكامل من أجل مكافحة انتشار الوباء.

تقوم النيوليبرالية الاقتصادية على أسس فلسفية تروج للفردانية والأنانية وخلو التعامل الاقتصادي من القيم على مستوى الأفراد. أما على المستوى المجتمعي، فتستند النيوليبرالية إلى الداروينية الاجتماعية التي ترى أن "البقاء للأفضل" في ظل التعامل الفرداني بين الناس. بمعني أنها ترى أن التعامل الاقتصادي بين جميع الأطراف يقوم على الصراع لتحقيقق المصالح الفردية، وسينتهي الصراع بحتمية "البقاء للأقوى". لا تكون القوة هنا، بالتأكيد" أخلاقية، بل هي القوة المستندة إلى "العقلانية" في اتخاذ القرارات التي تفضي إلى تحقيق شيء واحد، ولا شيء أهم منه: الربح. أسعى في هذه المقالة إلى ربط قرارات اليمين الأمريكي الحاكم، ممثلاً بقرارات الرئيس ترمب، بفلسفة النيوليبرالية من أجل تفسير السقوط الأخلاقي الذي تعاني منه أمريكا منذ بدء هيمنتها على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

البزنس لا دين ولا أخلاق له
أدت الخصخصة لمعظم مقدرات الدولة إلى سيادة القطاع الخاص وتحكمه في معظم مفاصل الدولة. حتى وكالة الاستخبارات المركزية تمت خصخصة الكثير من عملياتها على الأرض من خلال مئات الشركات الخاصة التي تعمل لصالحها

قبل سنتين اشتركت في دراسة مع زملينين لي في مركز المواطنة المسؤولة والاستدامة في جامعة ميردوخ في الغرب الأسترالي. واستندت الدراسة (قيد المراجعة والنشر)، التي تقودها بروفيسورة من جامعة برلين (www.gep-project.org/team)، إلى بيانات تم جمعها من طلبة جامعات في مختلف دول العالم حول تفضيلات أولئك الطلبة لأرباب العمل الذين يودون العمل معهم مستقبلاً. وقد وجدت الدراسة أن الطلبة الأمريكيين الدارسون في الاقتصاد والأعمال هم أقل الطلبة تفضيلاً للأمور الأخلاقية، والبيئية والمسؤولية الاجتماعية للشركات التي يتطلعون للعمل بها. وأن تفضيلات طلبة الاقتصاد والأعمال في الدول الأنجلوأمريكية، بشكل عام، لا تميل نحو تلك الأمور الأخلاقية.

لم تكن النتائج مفاجئة، فبعد 12 سنة من العمل البحثي في المسؤولية الاجتماعية للشركات والآيديلوجيات السياسية الحاكمة للأنظمة الاقتصادية التي تروج لتلك المسؤولية توصلت إلى نتيجة سبقني إليها المئات من علماء الاقتصاد السياسي والاجتماعي الذين يوسومون تشويهاً بأهم "يساريون" أو "راديكاليون": النيوليبرالية الأمريكية لا أخلاق لها، وأن انعدام الأخلاق المروج له من قبل النيوليبرالية يتم تدريسه لطلبة الجامعات في الاقتصاد والأعمل والتمويل في كافة أرجاء العالم من خلال عولمة النموذج الأمريكي في تدريس تلك الاختصاصات. ويتم تدريس تلك المساقات بعيداً عن الأخلاق والقيم والمبادئ المجتمعية وفق قوالب تجميلة مثل "العقلانية" و"الربحية" و"النتافسية" إلى غيرها من المصطلحات التي لطالما غرست في عقول ملايين الطلبة عبر العالم.

الإنسان كائن اقتصادي أناني

تستند الرأسمالية، منذ أن رآها منظرها آدم سميث، إلى رؤية وجودية للفرد بأنه كائن اقتصادي أناني، كل ما يهمه هو تحقيق مصالحه الفردية. ويتم تحقيق المصالح الكلية الاقتصادية للمجتمع من خلال "تصارع" المصالح الفردية في السوق "الحرة" التي لا تتدخل فيها الدولة، والتي تترك لـ"عقلانية" المتعاملين فيها كي تصل لما فيه "خير" للمصلحة الاقتصادية العامة. ويرتبط هذا المفهوم بالليبرالية الفردية التي تروج لها الديموقراطيات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص.

السؤال الملح الآن: ماذا جلبت حرية الأسواق والفردانية لتلك المجتمعات وللعالم أجمع منذ نشأتها حتى الآن؟ لقد كشفت الأزمة المالية العالمية عن السقوط الأخلاقي لكبار مؤسسات إدارة الثروات والبنوك، كما أظهرت الجانب القبيح لعمالقة القطاع الخاص وكيفية سيطرتهم على مقدرات الدول وحكوماتها وإعلامها. وها هي أزمة "كورونا" تعيد الكشف عن هذا الجانب، فهل من مدكر؟ ربما يظن البعض أن قرار ترمب عدم إغلاق الولايات المنكوبة قراراً فردياً، وهذا ضرب من الظن الخاطئ. في الحقيقة ترمب يمثل مشروعاً كاملاً متكاملاً يعكس الشركات الوطنية الأمريكية والتي تتلاقى مصالحها حتى مع خصومها الشركات الأمريكية العالمية في التفكير بمصالهم فقط: إغلاق الاقتصاد يعني الخسارة المادية!

سيادة القطاع الخاص وإلغاء دولة الرفاه

أدت الخصخصة لمعظم مقدرات الدولة إلى سيادة القطاع الخاص وتحكمه في معظم مفاصل الدولة. حتى وكالة الاستخبارات المركزية تمت خصخصة الكثير من عملياتها على الأرض من خلال مئات الشركات الخاصة التي تعمل لصالحها وفق عقود يتم تمويلها من موازنة الدولة، أي من جيوب دافعي الضرائب. ومنعت الدولة منذ عهد النيوليبرالية من أن تكون مصدراً للرفاه المجتمعي، فتحمل الأفراد مسؤولية رفاههم، وتم نشر مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات كذر للرماد في العيون، من جهة، ولكف يد الدولة عن إظهار نفسها بأنها من يدير رفاه الناس من جهة أخرى. بمعنى آخر، أصبح القطاع الخاص هو السيد المتفضل بالرفاه وذلك ضمن معادلات "تطوعية" تقوم على مبدأ النفعية العقلانية، فلا رفاه يقدم لمن لا قدرة له على المطالبة بحقوقه.

المعضلة التي تواجهها أمريكا الآن أن القطاع الصحي ونظام الرعاية الصحية تم بناؤه منذ عقود ليخدم المفاهيم التي ذكرتها آنفاً: العلاج متوفر لمن يحصل على تأمين صحي خاص (استفادة شركات التأمين التي تضخ أموالها في الأسواق المالية لخدمة الأثرياء فقط)، الشركات تمنح موظفيها جزء من التأمين الصحي على أن يقوموا هم بتغطية الجزء الآخر (الشركات هي من يقدم الرفاه اختيارياً وليس الدولة)، المستشفيات لا تستقبل من لا يملك المال أو لا يملك التأمين (معظم المستشفيات يملكها القطاع الخاص). لقد كشفت أزمة كورونا عن هشاشة النظام الصحي الأمريكي الذي يمتلك أعتى مستشفيات العالم، وأعرق مراكز الدراسات الطبية، وأرقى شركات التكنولوجية الطبية، لكن كلها لم تكن (ولن) تفضل المصلحة المجتمعية الأمريكية العامة، بل مصالحها الخاصة فقط وهذا ما يمثل تجسد أقبح جوانب الفردانية الأنانية التي تروج لها النيلوليبرالية الرأسمالية.

النظام الضريبي المنحاز للأثرياء

بعد استحواذ القطاع الخاص على مقدرات الدولة بأثمان بخسة، تروج النيوليبرالية للضرائب على أنها المصدر الرئيس لملء خزينة الدولة حتى تستطيع أن تدير نفسها. ليست هذه المشكلة وحسب، بل إن نظام الضرائب في معظم البلدان "الليبرالية" ينحاز بشكل فاضح للأثرياء والشركات العملاقة، ويظلم بشكل واضح الأفراد والعاملين من الطبقة الوسطى والدنيا.

ويدرك المتابع للشأن الأمريكي أن خفض الضرائب على الشركات، وليس الأفراد، يتصدر أجندات الجمهوريين، ومنهم مشروع ترمب الوطني الشعبوي. وعليه، فإن تعطيل الاقتصاد يفرغ خزينة الدولة من أهم مواردها (ضرائب الأفراد)، ويضر بمصالح الشركات (تعطيل الإنتاج)، ويضع الدولة أمام مسؤولياتها الأزلية (تعويض فقدان الوظائف)، ويشكف عورات الشركات التي ستتهرب من أن تدفع رواتب لأناس لا يعملون، في الوقت الذي تدعي تلك الشركات أنها تتحلى بالمسؤولية الاجتماعية! مثال بسيط على هذا السلوك النفعي الانتهازي ما قم به أحد بليونيرات أستراليا الذي رفض تخفيض إجارات المحال بسبب أزمة كورونا وهو يستعد الآن لإخلاء من لا يدفع رغم أن رئيس الوزراء طلب، ولم يأمر، مراكز التسوق بالصبر على أصحاب الأعمال الصغيرة!

الإعلام اليميني الأمريكي وتبرير موت كبار السن بسبب كورونا

مؤخراً، نشرت محطة التلفزة الأسترالية ABC News تقريراً يظهر بشاعة موقف الإعلام اليميني الأمريكي من حيث ترويجهم لعدم إغلاق الاقتصاد والاستمرار بالحياة مع انتشار كورونا، وتقبله على أنه أمر واقع بغض النظر عن إمكانية حصده لآلاف الأرواح البريئة من الأكثر عرضة للخطر، سيما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. وتداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقتطفات لمقابالات مع شخصيات جمهورية يمينية تدعو إلى عدم إغلاق الاقتصاد لأن ضرره عام على الجميع! ولأن كورونا خطر فقط على كبار السن الذين يجب عليهم أن يتقبلوا الأمر الواقع ويتخذوا الحيطة والحذر! وفي المقابل، يشن حاكم ولاية نيويورك، الأكثر تضرراً بفايروس كورونا، يويماً هجوماً لاذعاً على الحكومة الفيدرالية بسبب نقص الإمدادات الصحية وتدني الوضع الصحي في الولاية التي تعد القلب النابض للاقتصاد العالمي.

الخلاصة

يظهر التعامل الأمريكي مع تفشي كورونا على أرضها الإفلاس الأخلاقي الذي تروج له مبادئ النيوليبرالية وفلسفتها. فبعد أحداث 11 سبتمبر التي راح ضحيتها بضعة آلاف من الأمريكيين، حركت أمريكا جيوشها وأنفقت ما يبرو على 4 تريليون دولار (جلها لشركات المجمع العسكري) في العراق وأفغانستان! ويبدو أن "راعية الحريات" العالمية لا تهتم للآلاف ممن حصد أو سيحصد كورونا أرواحهم من الأمريكيين لأن الخسائر جراء إنقاذ الأرواح لن تكون في صالح الشركات، أو بمعنى آخر، أن الحرب على كورونا لن تؤدي إلى ضخ مليارات الدولارات في خزائن الأثرياء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.