شعار قسم مدونات

من مُذكراتي.. هامبورغ حيثُ الجمال والنظامُ

BLOGS هامبورغ

هيَ المدينةُ التي شهدت ولادةَ أول بنكٍ في العالم قبل 430 سنة، بنك بيرنبرغ، هيَ المدينةُ التي رأت فيها أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، النور، هيَ أول ولاية ألمانية تعترفُ رسمياً بالإسلام، هيَ بوابةُ ألمانيا البحرية بميناء هو الثالثُ كبراً.. كانت تلكَ بعضاً من المعلوماتِ التي طالَعتُها مُتَحمساً لوجهتي القادمة.

بينما تقتربُ الطائرة من مَدرجِ هبوطها، وقد انتصفتِ الشمس على جنبات مطار هامبورغ الدولي، تستقبلُك فخامةٌ لا تضاهيها فخامة. المنظرُ أشبهُ بحديقة خضراءَ متراميةِ الأطراف وقد تناغمتْ الطبيعةُ مع ما أقامهُ الإنسان من عمران في سموٍ لأشجار تُغطي الشوارع موهمةً إياكَ أنكَ في قريةٍ عصرية لا في ثاني أكبر مُدن ألمانيا.

إلى جانبي، جلسَ أربعيني ألمانيٌ شاركني الرحلة التي انطلقت من مطار شارل ديغول بباريس، ابنُ هامبورغ ومدير تنفيذي بمصنع لوفتهانزا العملاق للطائرات بنفس المدينة. عرفَ أنني عربيٌ من ملامحي، تبادلنا أطرافَ الحديث بلسان إنجليزيٍ، خُضنا في الإسلام والسلام والعمل واللغة وأشياء أخرى، أخبرني هنريتش عن زيارة قادتهُ للمغرب بمَعيةِ زوجته بنهاية التسعينات من القرن الماضي، شاركني انطباعِه عن أهلي وبلدي وعن رغبته في مُعاودة الزيارة، سألني عن المذاهبِ في الإسلام وعن السنة والشيعة وما فرَّق بينهما من توجهات واختيارات، تباهى بمعرفته لبعضِ الكلمات والعبارات العربية، حدَّثني عن الأتراك والأفغان الذين يُشكلون نسبة مهمة من اليد العاملة في هامبورغ، سألني عن عملي وعن عِلمي الذي تلقيتُه، تبادلنا بطاقات العمل business card على أن نتواصل فيما بعد..

في الشارع يُمنعُ كليةً استخدام أبواق السيارات، نظامُ السير والجولان يسيرُ هنا بانتظام ودقةٍ عاليَين، حتى أنني لم أَلمح ولا شُرطيَ مرورٍ واحدٍ خلال مُقامي بهامبورغ، للتربية الذاتية وحس المسؤولية حظوةٌ كبيرةٌ هنا

بمغادرةِ الطائرة يستقبلك المطار بعبارات الترحيب بلغات العالم، عبرية وعربية مرحبا في مدينة هامبورغ، في ردهة المطار الرحبة تُصادف أعراقاً مختلفة، هنوداً وأفارقة وأفغانيين ولاتينيين، تلجُ ممرَ المترو، لتختفي لغات العالم بمغادرتك المطار مفسحةً المجال للألمانية لغةً سيدةً سائدةً في كل رقعة من هامبورغ. في رحلة المترو تأسُرك عظمة التخطيط العمراني الألماني، مخترقاً المدينة تحت الأرض بخطوط مترو لامتناهية تنقُلك أنَّى شئتَ. كلٌّ في أمره منشغلٌ، هذا يقرأُ كتاباً وشابةٌ تطالعُ هاتفها وأخرى بيد حبيبها مُمسكةٌ، وصوتُ سيدة ينبعثُ عبر عربات المترو مُذكراً بالمحطة القادمة ورقم الخط.

مُنهَكاً أَحطُّ رحالي بفندقٍ هادئ جميل وسط حي الأبناك والأعمال في قلب هامبورغ، أتقدَّمُ صوبَ الاستقبال فإذا بي أجدُ شاباتٍ جالساتٍ في اللوبي يرتدين زياً رسمياً -أخبرتني إحداهنُ لاحقاً أنهنَ في فترة تدريب بأبناكٍ مختلفة بالمنطقة- صعدتُ غرفتي والوقتُ مَغربٌ لأستحمَ بصابون هامبورغ المحلي السائل الذي لطالما سمعتُ عنهُ.. التاسعةُ مساءً أُغادرُ الفندقَ لأبدأَ تعرفي الأول على المدينة، شارعٌ كبير رئيسي يُقابلُ الفندق وحتى تصلَ الناصية الأخرى وجبَ عليكَ احترامُ أضواء إشارة ممر الراجلين حتى وإن كان الشارعُ خاليا، فلا يحقُ لكَ عُبوره حتى تصير الإشارة الحمراء خضراء.. تحتضنُك هامبورغ في ليلتِها الأولى بسُمو نظامها وقوانينها، أَمُرُّ على مجموعة من الشباب الألمان المتسكعين في ممرٍ خافتِ الأضواء وقدْ أوجستُ في نفسي خيفةً من لفظٍ عنصري أو رد فعلٍ ما مُتذكراً تلكَ اللحظة عشراتِ اللقطات من أفلامٍ مرَّت علي، إلاَّ أن مخاوفي سُرعان ما تبدَّدت.

في زاوية الشارع قُرب محل للنباتات ألمحُ إشارة خضراءَ مُنبعثة من مطعم وقد اعتلتها عبارة حلال، المطعمُ إيرانيٌ مُعظمُ شبابه من طهران، لا يتحدثونَ إلا بالفارسية وبالكاد ينطقونَ عبارات بالإنجليزية، عرَّفني أحَدُهم على قائمة الوجباتِ التي تغلبُ عليها أطباق الدجاج واللحم المفروم، تقدَّم نحوي شابٌ ألماني ذو لحية صهباء يتحدثُ اللغة العربية الفصحى ببعضِ التلعثُم، أخبرني أَنهُ اعتنقَ الإسلامَ بعدَ زيارةٍ لتونس وأنهُ سمعَ الكثير عن أهل الذكر والتصوف بالمغرب وعن رغبته في زيارة بلادي والتعرف إلى خصائصها، حدَّثني عن حُبه للغة العربية وعن رغبته في الزواج بعربية، وعن احترامه لنساءِ المغرب، قالَ أنَّ صديقاً لهُ تزوجَ مغربية وأنجبَ منها ذُرية صالحة ولمْ يلقَ منها إلا كلَّ مودة ورأفة وحبٍّ، يَحكي ذلك بكثيرٍ من العفوية.. رافقني بعدَها مشياً إلى الفندق ليضربَ لي موعداً لصلاة الجمعة بمسجد الصحابة غير بعيدٍ عن ذات المطعمِ.. منتصفَ الليلِ، ولجتُ صالة الفندقِ وقدْ خلُد أغلبُ المقيمين به للنوم.

السادسةُ صباحاً، أفتحُ نافذةَ غُرفتي المُطلة على الشارع الرئيسي بضاحية هامبورغ الشمالية Habichtstraße وقد ملأته الدراجات الهوائية في ممرها الخاص وأصحابُها القادمون من كل حدب وصوبٍ متوجهونَ إلى عملهم، الشباب ببذلاتهم الأنيقة والسيدات بتنانيرهِن زاهية الألوان بعيداً عن كل تكلفٍ من مظاهرِ السيارات وتعقيداتها، حركيةٌ ونشاطٌ وانسيابيةٌ، صباحُ هامبورغ ليسَ كباقي الصباحات، يبُث في أوصالك حيويةً وإقبالاً على الحياة.. هُنا لا تساهلَ مع إضاعة الوقت بلْ إن الوقتَ قيمةٌ مُحددةٌ لحياة كل فردٍ في المجتمع.

السابعة صباحاً أتوجهُ نحو صالة الفطور، على عكسِ ثقافة مجتمعاتنا العربية يميلُ الألمان للنمط النباتي في تغذيتهم، في الفطور فواكه مختلفة وحبوب قمح ومربى وقطعُ خبزٍ وعصير ليمون، تَعرفتُ في صباحيَ الأولِ على شابةٍ ألمانية تَعملُ بشركة عقارات بالمدينة، تُقيم بالفندق خلال أيام الدوام وتقضي نهاية الأسبوع عند جدتها بأقصى شمال هامبورغ غير بعيد عن الدنمارك، تعرفتُ من خلالها على روتين أهل هامبورغ الصباحي وما يُعكر مزاجهُم وما يُسعدهم. لتقترحَ عليَّ لاحقاً أن تأخذني في جولةٍ مشياً على الأقدام حتى مكانِ عملها.. الألمانُ عفويونَ طيبونَ عكسَ ما يترددُ من صورٍ نمطيةٍ عن تعنتِهم، كباقي الشعوبِ هُم لينونَ مع لينِ القلبِ منشرحِ المُحيا مُعرضونَ عنْ مَن يعلو وجهه الغضب والكآبة.

في الشارع يُمنعُ كليةً استخدام أبواق السيارات، نظامُ السير والجولان يسيرُ هنا بانتظام ودقةٍ عاليَين، حتى أنني لم أَلمح ولا شُرطيَ مرورٍ واحدٍ خلال مُقامي بهامبورغ، للتربية الذاتية وحس المسؤولية حظوةٌ كبيرةٌ هنا، لمْ يتأثر الاحترامُ بالحريات الفردية، كلٌ بحدوده وحقوقه وواجباته واعٍ.. أتمشى رفقة الشابة الألمانية وقد استقيتُ بعض العبارات بالألمانية، التحية هنا Moin Moin، هي تحيةٌ خاصة بأهل هامبورغ صالحةٌ لكل أوقات اليومِ تستوجبُ بَشَاشةً عفوية لا تصنُعاً، وهيَ ذاتُ التحيةِ التي نفذتُ من خلالها إلى أشخاصٍ جدد وأحاديثَ كثيرة..

الجميلُ في هامبورغ أنها تَجمعُ ما تفرقَ في أنحاء العالم، دون أنْ تُفرط في هويتها ولغتها القومية.. مُقبلةٌ على المستقبلِ دونَ أن يُثنيها ذلك عن الاعتزاز بالماضي وأفضالِ من وضعَ الأُسس. وفي ذلكم عبرةٌ لنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.