شعار قسم مدونات

هل نشهد انتهاء عصر السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل؟

BLOGS سيارات

لقد سيطرت محركات الاحتراق التقليدية (الديزل والبنزين) في تاريخهما الممتد لمدة تزيد على قرن من الزمن على قطاع صناعة السيارات، ولم تستطع المحركات التي تعمل بأنواع الطاقة البديلة المختلفة (الكهرباء واليهدروجين) أن تشكل منافسة حقيقية لها خلال العقود الماضية. ولكن هذه السيطرة بدأت تتراجع في السنوات الأخيرة، خاصة بعد التغيرات البيئية المتسارعة، وتلقي هذا القطاع لعدة ضربات متلاحقة فسحت المجال لصعود السيارات الكهربائية، مما دفع بعض الخبراء إلى التبشير بقرب نهاية عصر محركات الاحتراق.

وقد أعلنت بعض الشركات الكبرى مثل مرسيدس وقف تصنيع محركات الديزل والبنزين ابتداءً من ٢٠٣٩، وأعلنت تويوتا عن وقف إنتاج محركات الديزل ابتداءً من ٢٠٢٥. وقررت شركة هوندا قصر مبيعاتها في أوروبا على السيارات الكهربائية ابتداءً من ٢٠٢٥. فما الذي دفع هذه الشركات إلى إدارة ظهرها للمحركات التقليدية والاتجاه نحو الكهرباء، وهل أصبحت هذه المحركات غير مناسبة لمتطلبات السوق ولحاجة الناس؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من عرض مختصر لميزات وعيوب محركات الاحتراق التقليدية والوقود المستخدم فيها:

الميزات:

1- كثافة الطاقة: حيث يستطيع السائق قطع مسافات كبيرة تصل إلى ٩٠٠ – ١٠٠٠ كلم في السيارات الموسطة الحجم بمحتوى خزان واحد.
2- الوفرة والبنىية التحتية: حيث تتوفر المحطات في كل مكان.
3- السعر: يبقى سعر البنزين أو الديزل أرخص من غيره من أنواع الوقود الأخرى باعتبار المسافة المقطوعة في اللتر الواحد.
4- سرعة تعبئة خزان الوقود: وهذه ميزة أيضاً خاصة بالمقارنة بسيارات الكهرباء التي تحتاج لما يزيد عن الساعة لتعبئة البطرية بشكل كامل.

فما هي التحديات التي يواجهها المحرك التقليدي؟

لقد أدركت الدول الصناعية مدى ضرر محركات الديزل والبنزين، كما فهمت أن التكنولوجيا في هذا المجال قد شارفت على الوصول إلى منتهاها، ولاحظت مدى صعوبة وتكلفة تحقيق المزيد من التقدم فيه، لذلك لجأت إلى محاولة تحجيم انتشار السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي

والحقيقة أن المحركات التقليدية تواجه أكبر تحدي لها منذ اختراعها إلى يومنا هذا، والعنوان العريض لهذا التحدي هو التلوث البيئي الذي يساهم في زيادته الانبعاثات الناتجة عن عملية الاحتراق داخل المحركات، وكل المصاعب التي يواجهها ما هي إلى تبعة من تبعات هذه المشكلة العويصة.

الانبعاثات والقوانين الصارمة

إن هذه المشكلة راجعة إلى طبيعة الوقود النفطي، حيث أن الاحتراق الطبيعي للمركابات العضوية ينتج ثاني أكسيد الكربون، الذي يزيد من الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض. وعلى الرغم من أن غاز ثاني أكسيد الكربون ليس خطيراً بذاته، وتسطيع الطبيعة التعامل معه وتحويله إلى الأكسجين، إلا أن إزدياد وتيرة التصنيع في الدول الصناعية، وتقلص المساحات الخضراء جعل الأمر يفوق قدرة الطبيعة على الحفاظ على توازنها. ومن هنا أيضاً يتبين ضرورة خفض استهلاك الوقود، إذ أن زيادة الاستهلاك يعنى بالضرورة زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

والمشكلة الأخرى تكمن في الاحتراق الناقص للوقود في مكابس محركات الاحتراق، إذ أن الاحتراق الكامل (المثالي) غير ممكن من الناحية العملية، حيث تعلق بعض الترسبات على جدران المكابس، وهذا يؤدي إلى إنتاج الانبعاثات السامة مثل أكسيد الكربون (CO)، والهيدروكربون (HC)، وأكسيد النيتروجين (NOx)؛ وهذه وإن كانت لا تشكل إلا واحد بالمئة من مجمل كمية الغاز الصادر من المحرك، إلا أنها غازات ضارة وبعضها مسرطن، وقد تؤدي إلى أمراض في الرئة والجهاز التنفسي.

وهذا ما دفع الدول المتقدمة إلى إصدار قوانين متدرجة تحدد نسب دقيقة لا يجوز تجاوزها، ويمنع ترخيص العربات الجديدة التي لا تلتزم بهذه المعايير. وأصبحت هذه المعايير تشكل تحدي حقيقي من الناحية التقنية لمصنعي المحركات التقليدية، ودفعت عجلة الابتكار في تطوير أنظمة مساعدة لخفض الانبعاثات الضارة؛ وهذا ما دفع بعض الشركات مثل فلكسفاجن في السنوات الأخيرة إلى التلاعب في برمجيات وحدة التحكم. ويقول الخبراء أن التحدي الأكبر يكمن في القدرة على خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، وليس في الانبعاثات الضارة، حيث ما زالت المحركات التقليدية قادرة لسنوات قادمة على الالتزام بالمعايير المطلوبة بالتقنيات الموجودة حالياً.

حدود التكنولوجيا

لقد بذل المهندسون والعلماء جهوداً هائلة والشركات أموالاً طائلة على مدى عقود في سبيل التطوير المستمر لمحركات الاحتراق لخفض استهلاك الوقود والانبعاثات الضارة في الدرجة الأولى، حتى أصبح قطعة هندسية في غاية التعقيد، حيث يحتوي المحرك على ما يزيد عن ٢٠٠٠ قطعة، ويقف وراء تطوير واختبار كل قطعة منه فريق من المهندسين والمتخصصين يعملون على التطوير الدائم والإتيان بالأفضل لمواجهة المنافسين.

ولكن في الفترة الأخيرة بدأت تعترف الأبحاث العملية بالوصول إلى حدود تقنية بعيدة، تطلب تجاوزها الكثير من الوقت والجهد والمال، ولكن الفوائد العملية الملموسة جاءت متواضعة على الرغم من كل ذلك. لذلك أصبح من المعروف لدى الخبراء أن إحداث ثورة تكنولوجية جديدة في هذا المجال أصبح مستحيلاً، وكذلك إمكانية إحراز تقدم كبير أصبحت غير ممكنة. ولذلك فكل عمليات التطوير في الوقت الراهن تنصب على تحسينات محدودة، وزيادة الاعتماد على الأنظمة الإلكترونية والكهربائية المساعدة للتغلب على المشكلات المذكورة.

الحظر الحكومي

لقد أدركت الدول الصناعية مدى ضرر محركات الديزل والبنزين، كما فهمت أن التكنولوجيا في هذا المجال قد شارفت على الوصول إلى منتهاها، ولاحظت مدى صعوبة وتكلفة تحقيق المزيد من التقدم فيه، لذلك لجأت إلى محاولة تحجيم انتشار السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي، وفرض الحظر على بعض موديلات السيارات القديمة التي لا تحقق الشروط المطلوبة في خفض الانبعاثات الضارة، كما لجأت إلى تشجيع الابتكار في التقنيات البديلة مثل الكهرباء والهيدروجين، وتشجيع الناس على شراء السيارات التي تعمل بهذه الأنواع من الطاقة عن طريق الإعفاءت الضريبية والمكافآت؛ وقد زاد من حدة هذا التوجه الوعي البيئي المتزايد لدى الشعوب الأوروبية والأمريكية، والصعود السياسي للأحزاب الخضر مؤخراً في عدة أقطار أوروبية.

وعليه فقد أعلنت الحكومة الإيرلندية نيتها منع ترخيص سيارات جديدة تعمل بالبنزين والديزل بداية من سنة ٢٠٣٠؛ كما تعتزم بريطانيا اتخاذ نفس الخطوة في ٢٠٣٥، وفرنسا في ٢٠٤٠. وتعد الدول الاسكندنافية نموذجاً في هذا الباب، حيث بلغت حصة السيارات الكهربائية والهجينة من مجمل السيارة الجديدة المرخصة حوالي ٤٩ ٪ في عام ٢٠١٨، وتلتها إيسلندا بنسبة ١٩ ٪، ثم السويد بنسبة ٨ ٪

ما هو مستقبل محركات الديزل والبنزين؟

إن الإجابة على هذا التساؤل ليس بهذه البساطة، فهناك تضارب كبير في أراء الخبراء، وتوقعات مراكز الأبحاث المتخصصة متباينة إلى حد بعيد. فالبعض يرى أن هذه المحركات قد وصلت إلى نهاية مشوارها، وأدت ما عليها في خدمة الإنسان، وذلك لعدم قدرتها على الالتزام بالمتطلبات البئية الجديدة، وينظر هؤلاء الى أن السنوات القادمة هو عصر السيارات الكهربائية بامتياز. بينما يذهب الطرف الآخر إلى استبعاد فكرة انقراضها في وقتٍ قريب لعدة أسباب منها:

– الوقت الطويل لإعادة شحن بطاريات الكهرباء، حيث يحتاج السائق من الوقت أضعاف ما يحتاجه لملء خزان الوقود؛ وإذا كانت تقنية الهيدورجين لا تعاني من هذه المشكلة، إلا أن توفر هذا النوع من الوقود ما يزال محدودا جداً.
– عدم توفر البنية التحتية الكافية في معظم المدن من محطات كهربائية لشحن البطريات، بالإضافة إلى التكلفة الهائلة اللازمة لتوسيعها والتي تبلغ مليارات الدولارات، والأمر بالنسبة لمحطات اليهدروجين أسوأ بدرجات.

– التحديات التقنية التي تعترض طريق تطوير البطريات، فهي ما تزال كبيرة الحجم وثقيلة الوزن، بالإضافة إلى المسافة المحدودة نسبياً التي توفرها، والتي قد لا تتجاوز نصف المسافة التي تقطعها سيارة البنزين أو الديزل قبل فراغ خزان الوقود، مما يجعل الاستغناء عن السيارات التقليدية في المسافات البعيدة أمرا مستبعداً حالياً. وعلى رغم صدور بعض الدرسات المتفائلة في السنوات الماضية والتي ما فتئت تبشر بتقدم نوعي قادم في مجال صناعة البطاريات، إلا أن هذه القفزة لم تأتي إلى الآن، والتطور ما يزال بطيئاً منذ سنوات، ولا يتناسب مع الأمال المعلقة على تقنية الكهرباء. ويبدو أنه ليس هناك حلول جذرية للتغلب على المشكلات المعروفة في هذا المجال.

عدم اقتناع معظم الناس بقدرة السيارات التي تعمل بالطاقة البديلة على تأمين حاجاتهم اليومية في التنقل، إذ ما زالت نسبة السيارات الكهربائية المرخصة حديثاً لا تتجاوز 5 ٪ في معظم البلدان الأوروبية. وعلى كل حال فالجزم في هذا الموضوع قد يكون فيه تسرع، ولكن من الواضح أن السيارات التي تعمل بالمحركات التقليدية مازلت تمتلك ميزات لا يمكن الاستغناء عنها، ولم يتوفر بديل لها إلى الآن، ولكن من المؤكد أنها ستفقد حصة كبيرة من سوق السيارات المستقبلية لصالح التقنيات البديلة، بل ليس من المستبعد أن تقصيها هذه عن المدن الكبيرة، ويقتصر استعمال السيارات التقليدية على المسافات الطويلة وخارج المدن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.