شعار قسم مدونات

كورونا.. من عولمة الاقتصاد إلى عولمة المشكلات

blogs كورونا

تتغير خرائط العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية تبعا لأحداث غير عادية ترسم ما بعدها، كالثورات الاقتصادية في أوربا وانهيار جدار برلين واتفاقيات السلام وثورات الربيع العربي وصولا لجانحة كورونا، وفرضت سياسات الدول العظمى نفسها على العالم تحت مفهوم العولمة، وربطت اقتصاديات الدول بشبكة علاقات تسمح لها بالتبادل التجاري للسلع والخدمات، وحرية انتقال رؤوس الأموال وتقديم المزايا الاقتصادية، وسهولة انتقال الأفراد والكيانات الاقتصادية وفروعها من دولة لأخرى، وتكوين سلاسل إمداد وشركات متعددة الجنسيات، كل هذا كان قبل ظهور ما يسمى بفيروس كورونا.

فقد توقع مدير عام صندوق النقد الدولي بعد مؤتمر مجموعة العشرين الأخير دخول الاقتصاد العالمي عام 2020 في الركود الاقتصادي جراء تأثير هذا الفيروس على الاقتصاد العالمي، عليه فإن عولمة الاقتصاد يتبعها عولمة المشكلات وانتقالها من دولة لأخرى، فمع وصول المصابين بفيروس كورونا قرابة النصف مليون حالة عالميا، فرض نفسه بقوة على جوانب الحياة وقطاعاتها عامة، ليكون نقطة تحول في الفكر والتوجه الاقتصادي من حالات العولمة والتوحد والتكامل العالمي، إلى حالات الانفراد والانطواء ضمن كيانات محلية ضمن إطار الدولة أو المقاطعة الواحدة ومدنها.

مما لا شك فيه أن العالم قبل كورونا ليس كما بعده، فقد تكون هذه هي نقطة النهاية، وهي ذاتها نقطة البداية لولادة كيانات اقتصادية جديدة، وظهور قوى عظمى جديدة أو إعادة ترتيب تلك القوى عالميا

فقد فُرض الحجر الصحي على مدينة ووهان الصينية، والتي يقدر مساهمتها في الناتج المحلي الصيني نحو 1.6 بالمئة، وقد خسرت البورصات الصينية عموما ما يقارب 420 مليار دولا خلال تفشي كورونا، وانخفضت البورصات الصينية 7 بالمئة من قيمتها، وهو المعدل الأسوء منذ 15 عاما. ومع تفشي كورونا وانتشاره، لا يمكن تجاهل أثر ذلك على الشركات متعددة الجنسيات، والتي لها فروع في دول عدة، والتي تعتمد في إنتاجها على سلع أو مواد أولية من دول أخرى متأثرة بهذا الفيروس، كإيطاليا التي تصنع الإطارات لمصانع السيارات، وبالتالي انتقال المشكلة الاقتصادية الناتجة عن إقفال متاجر قطع الغيار من إيطاليا لدول عدة، إضافة لإغلاق المصانع الصينية لقطع الغيار والمستلزمات ومصانع السيارات كتويوتا التي تنتج 15 بالمئة من أسطولها في الصين حيث أغلقت 12 مصنعًا، وبالتالبي سيطرح ذلك العديد من الأسئلة عن إمكانية جدوى مفهوم العولمة أو الاعتماد على الموارد المحلية لكل دولة، وما هي إلا صورة من صور الابتعاد عن العولمة.

وليست أسعار النفط بمعزل عن حديثنا المتعلق بأثر كورونا على الاقتصاد العالمي والعولمة، فقد واصلت أسعار النفط هبوطها لدرجة الانهيار متعدية حاجز 28 دولا للبرميل لخام برنت هبوطا، والناتج عن انخفاض الطلب على الطاقة ومصادرها، فلا طائرات تطير ولاسفنن تبحر ولا مركبات تسير في الكثير من الدول، عداك عن التوجهات السياسية لكل دولة من منظمة أوبك بلس وفق مصلحة الدولة أولا. وإن حرية الانتقال التي كانت تتغنى بها دول الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تصب اقتصاديا لصالح شركات النقل، أصبحت اليوم على المحك مع انتشار الجيش لعدد من الدول الأوروبية على حدودها وبين مدنها، كالنرويج والدنمارك وسويسرا وغيرها، كإحدى الخطى المتخذة للحد من انتشار هذا الفيروس، وما هي إلا ثورة على العولمة، ليصبح مصطلح الحجر الأكثر انتشارا على صعيد الدولة -بإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية- أو المنطقة أو المنزل الواحد بالتزام البيت والاعتماد على الموارد الأساسية، والانتقال من العمل المكتبي المعتاد للعمل من المنزل.

وإن انخفاض أو انعدام الطلب على السياحة وأثره على قطاعات النقل والسلع الاستهلاكية في حال استمر أثر الفيروس مع قرب دخول موسم الصيف، ما هو إلا سببا لانخفاض العائدات الاقتصادية للدول ذات المدن السياحية، لتظهر حالات العجز الاقتصادي كمدن باريس وروما واسطنبول. ولا يمكن تجاهل أثر كورونا على منظومة التعليم والانتقال للتعليم الرقمي عن بعد، ونقل التكلفة الاقتصادية والجهد من المدرس للطالب ومن المدرسة للبيت ومن المدير لرب الأسرة، ولعل التطور التكنولوجي اليوم هو أمام المحك باستمراه وقدرته على تلبية المتطلبات التعليمية والعلمية، من خلال ما يقدمه من منصات تعليمية.

مما لا شك فيه أن العالم قبل كورونا ليس كما بعده، فقد تكون هذه هي نقطة النهاية، وهي ذاتها نقطة البداية لولادة كيانات اقتصادية جديدة، وظهور قوى عظمى جديدة أو إعادة ترتيب تلك القوى عالميا، وإن كانت الحرب العالمية الثانية كوَّنت بعدها تحالفات وهيئات دولية ونظام عالمي جديد، فلا شك أن كورونا سيوجد نظم وقوى ومفاهيم جديدة تستحق الدراسة، إضافة لنقده وتقييمه لمفاهيم كانت سائدة على رأسها مفهوم العولمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.