شعار قسم مدونات

آلة التشيللو.. أقرب الآلات لصوت الإنسان

blogs تشيلو

سنة 1560م، كانت السنة التي بدأ العالم فيها يستمتع بأحد أجمل الآلات الموسيقية على الإطلاق، لن يكفي هذا العالم من كلمات لشكر مخترع آلة التشيللو، الإيطالي "أندريا أماتي"؛ التشيللو آلة دافئة، وعميقة، يقولون بأنها آلة رائعة للكتابة، فهي قادرة على إعطاء تعبيرات خاصة، ومنح إحساس يحاكي صوت الإنسان أثناء الغناء، فالكثير من الناس عندما يسمعون صوت التشيللو يعتقدون أن شخصا ما يتحدث معهم.

 

من أروع المؤلفات الموسيقية بآلة التشيللو، "كونتشيرتو تشيللو"، كانت للمؤلف الانكليزي إلغار، والتي أدّتها فيما بعد وبشكل أسطوري أقرَب للكمال "جاكلين دو بريه"، فهي حين تعزفها فأنت بين خيارين: إما أن تغمض عينيك وتنصت لها كما يشاء قلبك، وقلبك يعلم جيدا كيف ينصت، كل قلوب الناس تعرف، أو أن تتأمل معها الأشياء من حولك، فربما يصادفك وجه بالمرآة تتغيّر ملامحه مع كل نوطة، قد يكون وجهك الحائر الذي غمرته الموسيقى.

 

جاكلين تعتبر من أفضل عازفي التشيللو على مر العصور، رغم موتها صغيرةً عن عمر يناهز 42 عاما وذلك على إثر مرضها بمرض "التصلب المتعدد" وهو التهاب في الدماغ يعطّل وظيفة أجزاء من الجهاز العصبي و يُفقد صاحبه القدرة الفيزيائية والإدراكية. توقفت "دو بريه"عن الأداء في ربيعها الثامن والعشرين، بعد مسيرة حافلة دامت لعشر سنوات، التقت فيها بقائد الأوركسترا وعازف البيانو دانييل بارانبيوم سنة 1966، وتزوجا السنة اللاحقة، إذ عزفا كثنائي معاً حول العالم، التشيللو آلة حكيمة أيضا، تماما كروح "باخ"، يجمع مداها الصوتي طبقات الأصوات الأساسية من السوبرانو، حتى البيز، قلتُ "باخ" انطلاقا من مقطوعته الموسيقية "the bach suits" من ست أجزاء، والتي ألّفها خصيصا ليتم عزفها بآلة التشيللو.

  

آلة التشيللو أقرب الآلات لصوت الانسان، دائما ما كنتُ أتساءل: أ تراها عجوز حزين يحكي قصته، ذكر يبكي، أم عيون أنثى تبتسم؟ فهي توقد في النفس نيران الحب

فمجموعة السويت باخ، ظلت حبيسة الرفوف منذ القرن الثامن عشر، باعتبارها مجرد تمارين للعازفين، وأنها لم تكن صالحة لعرضها على الجمهور، حتى اكتشفها "بابلو كازالز" في مكتبة موسيقية، وظل يعزفها صباح كل يوم، إلى أن تجرّأ بعزفها على الجمهور بعد مرور 12 سنة، يحكي بابلو كازالز: "فجأة اقتربت من حزمة من الصفحات، ألوانها أصبحت باهتة مع مرور الزمن، كانت السويت من يوهان سباستيان باخ – للتشيلو فقط !…. أنا لم اسمع أبداً بوجود هذه السويت، لم يسمع بها أحد، حتى أساتذتي لم يذكروها لي أبداً، رجعت للبيت مسرعاً، ممسكاً بالسويت وكأنها حزمة ألماس، وحالما دخلت غرفتي، تمعنت فيها، قرأتها و أعدت قراءتها، كنت بعمر الثالثة عشر في ذلك الوقت، ولكن ذهولي بما اكتشفت استمر في النمو طوال السنوات الثمانون التالية، هذه السويت فتحت عالما جديدا، بدأت بعزفها بحماس لا يوصف، أصبحت أعزّ موسيقى لدي، درستها وعملت عليها كل يوم في السنوات الاثنى عشر التالية من يوم كشفها إلى يوم عزفها على مسامع الجمهور".

  

آلة التشيللو أقرب الآلات لصوت الانسان، دائما ما كنتُ أتساءل: أ تراها عجوز حزين يحكي قصته، ذكر يبكي، أم عيون أنثى تبتسم؟ فهي توقد في النفس نيران الحب، لها القدرة على تحريك الناس بطريقة غامضة، لا طاقة لهم على مقاومتها، وكيف يقاومونها وهي لا تمسّ قلبا إلا جعلته صافيا نقيا. التشيللو يعلّمك أنه بدون صمت لا توجد موسيقى، فلسماع الجمال الحقيقي للحياة يجب أن يكون هناك هدوء، فالموسيقى ترقص من أذن لأخرى بينما عازف التشيللو يفصِّلُ بين الحبال ليوافقها مع بعضها مرة أخرى لإنشاء شيء لم يكن يعتقد أنه ممكن، نعم فالتشيللو تعلمك أحيانا أن هناك إمكانية لتحويل المستحيل لممكن، هي آلة مثل امرأة جميلة لا تكبر في السن، بل تصغر بمرور الوقت وتصبح أكثر نحافة و ليونة ورقة.

 

فشكرا لكِ يا تشيللو على الحب والعاطفة التي تجلبينها مع كل نغمة، شكرا على ما علمتنا إيّاه من كون أن الموسيقى قد تتحدث في بعض الأحيان أعلى من الكلمات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.