شعار قسم مدونات

تيك توك.. مجتمع فاسد أم حريات شخصية؟

blogs تيك توك 3

قيل في الأثر أن العرب كانوا يعيبون بعض الأفعال التي تقدح في تمام المرء واستقامته، وتجعل من فاعلها في خانةٍ من الاستهجان والاستنكار في نظر مجتمعه، وهي ما عرفت فيما بعد باسم "خوارم المروءة"، ومنها على سبيل المثال : الأكل في الطرقات دون ضرورة، وتعمد اضحاك الآخرين بأداء حركات غريبة وغير سوية، وأيضاً ارتداء الغريب من اللباس، وغيرها الكثير. ومع مرور الزمن وبعد آلاف السنين، تلاشت المروءة في مجتمعاتنا شيئاً فشيئاً، حتى إذا ما ذكرت خوارمها في هذه الأيام باتت شيئاً يدعو للضحك، بعد أن تجرأنا على الله وتعدينا حرماته دون أن نشعر، فكيف لك أن تُقنع رجلاً يرتدي بنطالاً ممزقاً يكشف عورته، ويقلل من هيبته، بأن كشف الرأس في أحد الأزمنة كان خارماً للمروءة، يُعاب صاحبه!

وليت الأمر انتهى عند هذا الحد؛ ولكنه تخطى كل الخطوط الحمراء بعد أن صرنا نستسيغ قلة المروءة، ونتقبل انعدام الحياء، ونتهاون في التجاوزات الشرعية، أو على الأقل بتنا لا نرفضها، حتى اعتادت العين عليها، وسمحنا لعقولنا أن ترتضيها، حتى انتهى بنا المطاف أخيراً إلى حيث تجتمع كل هذه التفاهات والتجاوزات في مكان واحد، وقُدمت للمجتمع في قالبٍ جاهز، ألا وهو "تيك توك". مع انطلاقة تطبيق "تيك توك" في عام ٢٠١٦ حقق نجاحات ضخمة، وانتشاراً مرعباً حول العالم، خاصةً بعد اندماجه مع تطبيق "ميوزكلي" عام ٢٠١٧، حيث وصل عدد المستخدمين النشطين شهرياً لهذا التطبيق في عام ٢٠١٨ حوالي ٥٠٠ مليون مستخدم!

الخطر الأكبر الذي نتج عن هذا الانحلال هو أن هؤلاء أصبحوا هم المؤثرين في مجتمعاتهم، بل ويمهدون الطريق أمام غيرهم من المقلدين والجهلة كي يحذوا حذوهم، لتنتشر هذه التجاوزات كالنار في الهشيم

والفكرة منه هي تركيب مقطع فيديو على مقطع موسيقي بهدف إنتاج مقاطع قصيرة يستطيع أي شخص يستخدم التطبيق مشاهدتها، والتفاعل معها، وتحميلها، وإذ يصفه مؤسسوه بأنه شبكة إجتماعية؛ فإن الحقيقة مغايرة لذلك تماماً، إذ بات يمثل الطريق الأسرع والأسهل من أجل الشهرة، دون أدنى تخطيط أو ابتكار، كل ما عليك فعله هو لفت الانتباه بأي طريقة، ولأن القبول الإجتماعي بات حكراً على مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي؛ أصبح "تيك توك" بيئةً خصبةً للباحثين عن الشهرة بأي ثمن، وهنا تكمن المشكلة!

ليس عيباً أن تكون مشهوراً ذائع الصيت، ولكن المشكلة هي في أمرين اثنين، أولهما حب الشهرة، والعيش لأجل تحقيقها، وأن تصبح هي الغاية التي تنتهي عندها كل الآمال، وهذا من المصائب التي تجعل من صاحبها ينصب نفسه كإلهٍ على غيره، لا كلمة فوق كلامه، ولا رأي أنصح من رأيه! أما المشكلة الثانية فهي السعي للوصول إلى الشهرة مهما كلف ذلك من ثمن، وهنا لب الحديث، فقد أتاح "تيك توك" للجميع أسهل الطرق، وأقلها كلفةً وعناءً في سبيل الشهرة، فإذا كنت شاباً فكل ما عليك هو أن تقوم بأداء حركات غريبة عن فطرة مجتمعك، ولا بأس أن يتخللها شيء من بذيء الكلام والإيحاءات، أما إذا كنتي فتاة؛ فإن الطريق نحو الشهرة يبدو أقصر وأسهل، كل ما عليك هو أن تنزعي عنك ما استطعت من الثياب، وأن تتمايلي على دندنات الأغاني الهابطة وما إلى ذلك، وستأتيك الشهرة على طبق من ذهب!

ولعل الخطر الأكبر الذي نتج عن هذا الانحلال هو أن هؤلاء أصبحوا هم المؤثرين في مجتمعاتهم، بل ويمهدون الطريق أمام غيرهم من المقلدين والجهلة كي يحذوا حذوهم، لتنتشر هذه التجاوزات كالنار في الهشيم، دون رادعٍ ديني بحجة التحرر والانفتاح، ودون رادع تربوي في ظل انعدام الرقابة والتربية، ودون رادعٍ مجتمعي بعد أن أصبح المجتمع يتقبل هذه التصرفات ولا يرفضها، حتى باتت شوارعه وساحاته العامة مرتعاً لهم دون أي قيود.

وبرغم الانحلال الذي يشوب مجتمع "تيك توك"؛ فإن لكل قاعدة شواذ، و المخجل أن الشاذ في هذه القاعدة هو عدد بسيط من مستخدمي هذا التطبيق ممن يحسنون استخدامه، إما في جوانب علمية، أو توعوية، أو ترفيهية محمودة، ولأن القيم في زماننا قد انهارت؛ فإن هؤلاء ليس لديهم نفس الفرصة والمساحة من الشهرة والمجد المزعوم. ختاماً فإن "تيك توك" بمجمله ليس مكاناً صالحاً تستقي منه المعرفة، وليس وسيلة التواصل الأمثل كي تحادث من تشاء، وليس وسيلة الترفيه الوحيدة التي تقدم المتعة، ضره أكبر من نفعه، إن كان يحوي نفعاً من الأساس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.