شعار قسم مدونات

لمحات من حياة صاحب "عتريس وفؤادة"

blogs ثروت أباظة

تتوزع حياة الأديب في أعماله، لا يمكن الفصل بين ذاته وموضوعاته بدقة، وله أن يخلع عليها من عباءة التخييل ما شاء؛ فالفنان ليس مؤرخًا ولا إخباريًا. استبعد نجيب محفوظ أن يكتب سيرته الذاتية، ترك لنا شذرات من حياته ضمن لقاءات صحفية، وما جمعه لنا جمال الغيطاني ورجاء النقاش وآخرين، ترتئي فئة أخرى من الأدباء أن تكتب سيرتها بنفسها، قد تخصص لذلك مساحة تطول أو تقصر بين دفتي كتاب، وربما تقرر أن تبثها أشتاتًا بين جملة مؤلفاتها، وفق ما تسمح به القريحة والظروف المحيطة. على هذه الشاكلة تأتي سيرة ثروت أباظة، الأديب الذي تربى في كنف الملكية، ونَقِمَ على عبد الناصر نِقمةً يرى أن لها مسوغاتٍ منطقية، ولم يتحمس للسادات قبل أكتوبر/تشرين الأول 1973.

 

فرَّق ثروت أباظة دماء سيرته الذاتية بين عددٍ من كتبه؛ فتجده يبث شجواه في "لمحات من حياتي"، و"خواطر ثروث أباظة"، و"ذكريات لا مذكرات"، ويتمثل عددًا من مواقف والده في أعماله، ومنها رواية "أحلام في الظهيرة"، و"جذور في الهواء". يبقى فيلم "شيء من الخوف"، المأخوذ عن قصة تحمل الاسم نفسه العلامة الأبرز في سجل ثروت أباظة، لا سيّما جملة "وزواج فؤادة من عتريس باطل" وقصتها. ربما لا يتذكر كثيرون أنه كتب عددًا كبيرًا من المسلسلات الإذاعية، لدرجة أن توفيق الحكيم كان لا يخرج من بيته مرارا، وحين يُسأل عن السبب يقول "كنت أستمع لمسلسل ثروت أباظة".

 

ولد ثروت في منزل بشارع "جوهر القائد" في حي المنيرة، يوم 28 يونيو/حزيران 1927، لكن أباه السياسي المعروف، إبراهيم دسوقي باشا أباظة، رفض أن يسجّله ضمن مواليد القاهرة؛ ليعقد صلة قوية بين ابنه البكر ومسقط رأسه بقرية غزالة التابعة لمدينة الزقازيق، وانتظر إلى أن سافر للقرية وقيده بها بتاريخ 15 يوليو/تموز، اعتاد والده -من فرط حبّه لقريته- أن يوقّع مقالاته السياسية باسم الغزالي أباظة، ونشأ ثروت وإخوته -شامل وزينات وكوثر- في منزل رقم 24 بشارع الملك الناصر في حي المنيرة، ودخل المدرسة الملاصقة للبيت أول الأمر، كان ناظر المدرسة، فهمي الكيلاني، والد المذيعة سميرة الكيلاني، ومن بين الأساتذة محمد البابلي، والد الفنانة سهير البابلي، ومدرس الحساب فؤاد نويرة، أخو الموسيقار الكبير -لاحقًا- عبد الحليم نويرة وكان أخوهما الأكبر الأستاذ مختار نويرة صديقًا مقرّبا لنجيب محفوظ.

 

تخرج ثروت أباظة في كلية الحقوق سنة 1950، وتزوج من الآنسة عفاف -ابنة عمه الشاعر عزيز أباظة، وبعد ثلاث سنواتٍ توفي والده، ثم مات طفله الأول قبل موعد ولادته بأيام

قبل امتحان الشهادة الابتدائية انتقل ثروت إلى مدرسة العباسية، وفي المرحلة الثانوية درس بمدرسة فاروق الثانوية، وكانت من أفخم مدارس مصر يومها. انكب على القراءة منذ نعومة أظفاره، وفي سن السادسة عشرة نشر له العميد أحمد أمين مقالًا في مجلة الثقافة بعنوان "تصحيح أوراق"، وذيّلها بتوقيع "تلميذ قديم"، ومن يومها دخل حلبة الكتابة. أثناء دراسته الثانوية، تولى والده وزارة الشؤون الاجتماعية أول مرة في 26 يونيو 1941، واستقالت الوزارة بعد شهر، وفي اليوم نفسه كانت الزقازيق تحتفل بابنها الوزير، ولم تعلّق احتفالها بالرغم من الاستقالة.

 

أُعيد تشكيل الوزارة، وفيها دسوقي أباظة في المنصب ذاته، حتى حاصر الإنجليز القصر الملكي، مطالبين بتعيين النحاس رئيسًا للوزارء، ومهددين بعزل الملك فاروق يوم 4 فبراير/شباط 1942. في مبنى وزارة الشؤون الاجتماعية، يعمل توفيق الحكيم، وقد دعاه الوزير إلى منزله هو وإبراهيم عبد القادر المازني؛ مما قوى أواصر الصلة في وقتٍ لاحق بين الأديب الشاب -ابن الوزير- وعمالقة الأدب ورموزه الكبار.

 

انتقل أباظة من المنيرة إلى المنزل رقم 10 بشارع الجنزوي في العباسية، وفوجئ أن أستاذه فؤاد نويرة يسكن في البيت رقم 2 الشارع نفسه، وتوطدت العلاقة بينهما، وسأله الأستاذ يومًا: لمن تقرأ؟ قال: لطه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والمازني وهيكل؛ فقال له: لا بد أن تقرأ للشباب أيضًا؛ فسأله: مثل من؟ قال: نجيب محفوظ، يكتب قصص وروايات سأحضرها لك غدًا. من هذه اللحظة عرف ثروت أباظة أديبًا اسمه نجيب محفوظ، قرأ له "همس الجنون"، ثم طلب إلى فؤاد نويرة أن يعرّفه على محفوظ، والتقيا حوالي عام 1944 في كازينو أوبرا، واستمرت بينهما العلاقة الطبية.

 

في عام 1946، كان إبراهيم دسوقي أباظة وزيرًا للأوقاف في وزارة إسماعيل صدقي، وكان نجيب محفوظ سكرتيرًا لوزير الأوقاف لشؤون مجالس الأوقاف الأعلى؛ فتوطدت الصلة بين الرجلين. انضم ثروت إلى شلة الحرافيش، وكان يلتقي بنجيب محفوظ في مقهى عرابي بميدان الجيش بالعباسية، ثم يتحرك أعضاء الشلة إلى مكتب الأديب المحامي عادل كامل (صاحب مليم الأكبر) بشارع فؤاد، ثم يخرجوا جميعًا إلى سهرتهم، بعد أن يشتري نجيب محفوظ كيلو كباب من العباسية، وكيلو حلويات شامية من ميدان الأوبرا.

 

تخرج ثروت أباظة في كلية الحقوق سنة 1950، وتزوج من الآنسة عفاف -ابنة عمه الشاعر عزيز أباظة، وبعد ثلاث سنواتٍ توفي والده (في 22 يناير/كانون الثاني 1953)، ثم مات طفله الأول قبل موعد ولادته بأيام، فضلًا عن أن عمله في المحاماة غير منتظم الدخل؛ فضاقت به السبل وحاول جاهدًا الخروج من ورطته. في غمرة أحزانه، كتب رواية "ابن عمار"، وتوجه بها إلى دار المعارف، والتقى مشرف النشر، الشاعر عادل الغضبان، ووافقت الدار على نشر "ابن عمار".

  

لعب طه حسين دورًا مؤثرًا في حماية أباظة من بطش الضباط الأحرار؛ فنشر مقالًا يسفّه من قيمة الرواية، وأنها لا تحمل أيّ صبغة سياسية

ويشاء ربك أن يتعرف إلى توفيق الحكيم، بل إن الروعة في أن يبدأك رجل في مثل قيمة وقامة توفيق الحكيم الكلام! لم يقل في نفسه: أنا عملاق الأدب، ولا يليق بمركزي الأدبي أن أبدأ الحديث مع كويتب (تصغير كاتب) أو أديوب (تصغير أديب). قال توفيق الحكيم -بجلالة قدره- لصاحبنا: هل أنت ثروت أباظة؟ فأجابه: نعم يا سعادة البيك أنا هو؛ فقال الحكيم: أنا معجب برواياتك في الإذاعة جدًا، لدرجة أنني حين أقرأ في البرنامج أن لك رواية أمكث في البيت ولا أخرج. طاش عقل أباظة وهو يرد: أصحيح هذا الذي أسمع؟! أنا يخيل لي أنني أحلم! فقال الحكيم: لا والله فعلًا، وأصدقك القول.

 

بعد نشر "ابن عمار"، أهدى نسخة منها للحكيم؛ فأعجب بها وقال إنها تصلح للسينما، وإنه استمتع بقراءتها. على عادة المؤلفين، أهدى أباظة نسخًا للكتّاب والنقاد في الجرائد اليومية، ولم يذكر أحدهم "ابن عمار" ولو في سطرٍ واحد؛ فجلس يومًا والحكيم في جروبي سليمان باشا، وبثّ شكواه للحكيم وإهمال النقاد للكتاب؛ فأجابه الحكيم جوابًا غريبًا: "إن الشهرة تأتيك إذا ذهبت إلى بار في أحد الكباريهات، واتفقت مع راقصة إما أن تصفعك قلمًا أو تصفعها قلما؛ فتصبح شهيرًا في لحظة! أما طريق الكتب فطريق وعر وغير مضمون على الإطلاق".

 

وأقبل الصيف، وكان الحكيم يجلس في مقهى بترو بالإسكندرية، وذهب أباظة إلى المقهى مبكرًا؛ فوجد الحكيم وحده هناك، وقد بادره بابتسامته المعهودة قائلًا مع نبرة صوت لها مغزى: مبروك يا سيدي! فسأله أباظة: عَلَامَ؟! ليجيب الحكيم: قرروا كتابك على طلبة الإعدادية هذا العام، وطار أباظة من الفرح وهو يسأل: كيف عرفت؟ فمد إليه الجريدة وقال: منشور في الجريدة، وبينما تلقف أباظة الجريدة لا يصدق نفسه، إذا بالحكيم يمصمص شفتيه -على عادته- ويقول: "شوف ولاد الكلب ياخدوا كتابك ويسيبوا كتابي!".

  

تشجّع الناشر بعد ذلك؛ فنشر رواية "هارب من الأيام" سنة 1957، وحازت جائزة الدولة التشجيعية، ثم كتب "شيء من الخوف"، لكنه تشبّع بفكرتها قبل أن يكتبها، وقد ناقش نجيب محفوظ في بذرة فكرتها قبل أن يكتب فيها كلمة واحدة، يومها، كان عبد المنعم الصاوي وكيلًا لوزارة الثقافة، وهو الذي لفت أنظار السلطة للرواية بقوله: "إن ثروت أباظة يقصد الرئيس عبد الناصر بشخصية عتريس في الرواية، وأن زواجه من فؤادة -أي مصر- باطل". شاهد عبد الناصر الفيلم المأخوذ عن الرواية، وسمح بعرضه قائلًا: "لو كنا احنا الحرامية، وأنا عتريس، يبقى منستاهلش نقعد في الحكم". بعد هذه الواقعة، بدأ نجم عبد المنعم الصاوي في الأفول، صحيح أن صراعاته مع ثروت عكاشة -وكان بينهما ما صنع الحداد- لها نصيب الأسد من ذلك، لكن مسألة رواية ثروت أباظة لعبت دور قشةٍ قصمت ظهر الصاوي!

  

لعب طه حسين دورًا مؤثرًا في حماية أباظة من بطش الضباط الأحرار؛ فنشر مقالًا يسفّه من قيمة الرواية، وأنها لا تحمل أيّ صبغة سياسية، وأن من يزعمون أن فيها خيط سياسي "أغبياء"! أرسل حسين إلى أباظة، وأخبره أنه كتب مقالًا عنيفًا ضده، لا لشيءٍ إلا لحمايته من بطش مجلس قيادة الثورة، وفي 17 مارس/آذار 2002، رحل عن عالمنا ثروت أباظة بعد رحلة أدب وسياسة طويلتين، وله بين أيدي القراء ما يزيد عن خمسة وثلاثين كتابا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.