شعار قسم مدونات

الصمود النفسي في عالم مجنون

blogs تفكير

أنت تقرأ هذا المقال غالباً لأنّك ترى هذا العالم مجنونًا لدرجة أنّك تشكّ أحيانًا هل أنت المجنون بين كلّ هذا الزحام، لا تقلق -عزيزي القارئ- لست وحيدًا في هذه المعمعة، وإليك العوارض التي نتشاركها: قلقٌ عارم في الصدر يسرق النوم من جفوننا، توتّرٌ أصبح رفيقًا لصمتنا وضجيجنا، صوتٌ يصرخ في رؤوسنا ليل نهار مطالبًا بموعد الإفراج: متى سيتوقّف هذا العالم عن الدوران بسرعة تفوق قدرتنا على تثبيت أقدامنا دون زلل؟ متى نلتقط أنفاسنا؟

 

وهنا يتوجّب أن نتوقّف برهة لنتساءل: هل العالم الآن أكثر جنونًا ممّا كان عليه في سابق الأزمنة؟ أم أننا غدونا ضعفاء؟ الحقيقة أنّ الإجابة على هذ السؤال على مشروعيّته مستحيلة، لأنّها ستتطلّب أن تكون قد عايشت الأزمنة والظروف الأخرى لتحدّد ذلك بشكل يقطع الشكّ. وهنا توقّف ثانٍ: هل العالم هو من يلقي بثقل كبير علينا أم أنّنا نتعامل مع هذا الثقل بشكل يزيد منه؟

 

لا شكّ بأنّ العالم اليوم متطلّب. فلنتحدّث على صعيد العالم العربي، نحن شعوب مسكينة تعيش تحت وطأة شبه استعمار محى هويّتنا وفرصنا في التنمية الحقيقية على الأسس والقيم التي نحلم بها. نحن شعوب تطمح للحياة الكريمة لكن لا تجد لها سبيلًا ضمن منظومات سياسية فاسدة أو أقلّها منسوبة للخارج. المعيشة صعبة نعم. لكنّ احتكار المعاناة في بلادنا أمر عجيب؛ إنّنا نتصرّف وكأنّنا وحدنا دون الخلائق وقّعنا على عقد قبل الولادة بألا تصيبنا شدّة في هذه الحياة ثمّ أُخلّ بهذا البند فتفاجأنا.

 

ما أعنيه هو أنّ أحدًا في البشرية جمعاء لم يقل يومًا أنّ الحياة سهلة، بل على العكس فإنّك تجد أغلب من كتب عن الحياة بشكل عام يميل لوصفها بالمعاناة المستمرّة، أو الصراع، أو تراكم آلام حتى الموت. وإن كنّا لا نتّفق البتّة مع هذا التوصيف الأحادي إلا أنّه إن دلّ على شيء فهو أنّ الحياة أبعد ما يكون عن الجنّة لو رجونا ذلك ليل نهار.

 

الحياة كما أسلفنا مليئة بالآلام، قد تأتي المصائب عامّة كانهيار اقتصادي، أو جائحة وبائية خاطفة تهدّد أحبابنا

يقول الكاتب البريطاني الشهير ك. س. لويس – وهو كاتب قصة نارنيا الشهيرة – عندما سئل عن كيفية عيش الإنسان في العصر الذرّي (أي القنبلة الذرّية): "كما كنت لتعيش في القرن السادس عشر عندما كان الطاعون يزور لندن كل سنة، أو كما كنت لتعيش في عصر الفايكنغ عندما كان من الممكن أن يأتي الغزاة من سكندنافيا ويجزّوا عنقك في أيّة ليلة، أو كما تعيش حقًّا اليوم، في عصر السرطان والسيفيليس، عصر الشلل، عصر الغارات الجوية، وعصر حوادث سكك الحديد وحوادث المحرّكات".

 

ستعيش اليوم، كما عاش مَن قبلك بكلّ مصائبهم، ستعيش وتصمد وتحارب وتغيّر كي يأتي يوم أفضل في رحلة هذه الحياة.

رحلة من؟

رحلة نفسك.

ما هذه السفسطة؟

 

أبدًا. أنتَ نفسُك؛ نعم، لكن تحديد المصطلحات يساعد في تركيز المعنى. الذي يتذمّر من أوجاع الحياة ومصاعبها هو نفسُك، تلك التي ترافقك طيلة حياتك، تلك التي تطعمها وتسقيها يوميًا الكثير من المدخلات وبناءً عليها تتشكّل عمليات المعالجة لتعطيك المخرجات: فرحة أو ألم أو صمود، وبمناسبة الحديث عن الصمود، انكبّ العلماء منذ القرن الماضي على دراسة هذه الحالة الإنسانية الفريدة: الصمود أمام الأزمات. وما زال الجدل قائمًا حتى اللحظة من أجل تعريفها، وأبرزه الفرق بين تعريف الصمود على أنّه "صفة" ثابتة في الإنسان تتأتى من عوامل عديدة في الطفولة وحتى على المستوى الفيزيولوجي، وبين تعريفه على أنّه "عمليّة" ديناميكية يكتسبها الإنسان عند الشدائد، ومنهم من يجمع بين التعريفين بشكل يكمّل بعضه بعضًا.

 

قد تجد نفسك الآن تميل لتعريف على آخر لكن لا تتسرّع، إنّ الحياة كما أسلفنا مليئة بالآلام، قد تأتي المصائب عامّة كانهيار اقتصادي، أو جائحة وبائية خاطفة تهدّد أحبابنا؛ وتأتي خاصّةً فلكلّ منّا ألمه الخاصّ الذي قد وقد لا يفهمه الآخرون مع أنّه ألم مشترك قد يشعر به كلّ البشر في لحظة أو أخرى، ألم الفقد والخيبة، أمل أن يُزهد فيك بعد أن أعطيت كلّ ما بوسعك، ألم أن يُغدر بك ويُفترى عليك، ألم أن يتخلّى عنك من كان السند يومًا ما، ألم أن تتحطّم أحلام بنيتها طويلًا، ، ألم أن تُترك لاجئًا في العراء بلا مأوى مع أطفال صغار، ألم الألسنة قبل الأيادي، ألم الانكسار والخذلان.

 

تحويل نظرك من الخط الأفقي الذي تتسطّر عليه كلّ آلامك الدنيوية أمام حبل الله العمودي، هو ما يرشد اللُه نفسَك لفعله عند الشدائد

فكيف يتجلّى الصمود إذًا؟ الصمود عبارة عن القدرة على الانتفاض في وجه المصاعب، والعودة إلى الحالة التي كانت ما قبل الشدّة أو أفضل. وفي تعريف آخر، هي تعامُل الفرد بشكل "أفضل من المتوقّع" في ظروف صعبة. ومن الأمثلة على ذلك الطفل الذي يتمتّع بالقدرة على التعبير الصحّي عن مشاعره رغم كثرة الصراعات بين والديه في البيت، أو قدرة امرأة فقدت زوجها في الحرب أن تنتفض وتعمل وتربّي أولادها بعزم، أو مريض السرطان الذي يتمتّع بالأمل والإيمان أثناء محنته وآلامه.

 

إذًا ماذا تقول الدراسات التي أُجريت مع هؤلاء الصامدين والصامدات؟ ما سرّهم؟ تُدرج الأبحاث كثيرًا من العوامل منها صفات شخصية كالثقة بالنفس والصلابة والشعور بالسيطرة على الواقع، ومنها عوامل اجتماعية كوجود عائلة ودائرة أصدقاء داعمين، ومنها ما هو عمليات نفسية كالإحساس بوجود معنى وهدف في الحياة، والبحث عن الحكمة، والانخراط في الحياة بمبادرة، هذا بالإضافة طبعًا إلى اللجوء للدين وللروحانيات.

 

فلنتوقّف هنا.. إنّ تتبّع الأنماط التي يتحلّى بها الإنسان الصامد تظهر النموذج التالي: عدم الغرق في ظلمات المأساة أو الخروج منها يتطلّب الرجوع إلى الوراء والنظر إلى الصورة العامّة دون تهويل كي تستمرّ الحياة كالسابق أو أفضل، ومن اللافت/المثير للاهتمام وجود هذا النموذج في أنفسنا على المستوى البيولوجي فهرمون الأدرينالين الذي تفرزه أجسامنا عند الشعور بالخوف أو الهلع، يعمل حين إفرازه على شبكية العين فيتوسّع البؤبؤ، وينتج عن ذلك قصر في النظر. أما على المستوى النفسي، فالذعر الآني يؤدي إلى انغماس في المسألة المؤلمة دون النظر لما وراءها؛ أي قصر نظر.

 

كلّ ما سبق يوحي بأهمّية وجود أفكار تسيّر هذا السلوك النفسي الحكيم، إذ من الصعب تخيّل إمكانية النظر لصورة أكبر أهم قد تواسي الإنسان في فاجعته إن كان يرى مُصابه أساس الحياة. و"أساس الحياة" هذا يختلف من شخص لآخر. إذًا كلّ من أُصيب فيه ستتوقّف عنده الحياة. لا. الصمود يتطلّب التمسّك بما لا تتوقّف عنده الحياة بل تستمرّ، نصل هنا إلى ختام المقال – عزيزي القارئ – وأعترف لك بأنّ كلّ ما أسلفت يعبّر فقط عن ضياع الإنسان الذي يتخبّط والمفتاح قد أُرسل له منذ الأزل: "ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس وبشّر الصبرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" – القرآن الكريم، البقرة (155-157).

  

أنت، أنا، جميعنا، له وحده لا شريك له، وإليه راجعون. تحويل نظرك من الخط الأفقي الذي تتسطّر عليه كلّ آلامك الدنيوية أمام حبل الله العمودي، هو ما يرشد اللُه نفسَك لفعله عند الشدائد، فأنت إذ تفعل تَصغُر المعاناة في عينيك، وتقوى نفسك على تقبّل "الواقع الجديد" الذي وُضعت فيه لأنّك بالأساس مؤمن بأنّه من الله الذي يكتب الخير أينما كان، وهو وحده القدير على تحويل كلّ حال والمنّ بكلّ النعم، وهنا تتنزّل عليك الرحمات والرضا تعينك على أن تُشفى من جرح المُصاب حتى لو بعد حين، هي دنيا فانية، إلى الله المرجع من قبل ومن بعد، نمرّ فيها برهةً لا نملك فيها إلّا أن نزكّي أنفسنا وأن نعين غيرنا متى استطعنا، حتى إذا مررنا بشدّة دَعَمنا الأحبّة أفقيًا، واستعننا بالخالق عاموديًا، وأُثلجت الصدور بإذن الله. وللحديث تتمّة إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.