شعار قسم مدونات

قريبا في القاعات السينيمائية

Blogs - Sad

كثُرت صرخات الآهات والآلام والدموع والشكاوى. صرنا نعيش داخل فيلم سينمائي درامي حائز على جائزة نوبل للدّمار، فيلم طويل لا ينتهي أبدا، من إنتاج الظروف وإخراج "الوضعية" وتشخيص الإحباط واليأس والاستسلام والبكاء والتوهّم والسلبية واللامسؤولية والقرف! فيلم يستحوذ فيه دور الضحية على البُطولة المطلقة دون مُنازع. خدع رقابة الأعمال الفنّية وخرق كل القوانين والمعايير.

 

سئمت مشاهدة لقطاته المستهلكة، العديمة الحسّ والخالية من الإبداع. فيلم ليست له بداية ولا نهاية، مثل العلاقات المزيّفة التي تولّد النواح الاجتماعي. لا يوجد فيه سوى عرض ممتدّ بطول اليوم، بطول الأسبوع وبطول السنة. تعبت من مسح دموع الأحداث المتكررة والطبطبة والمواساة والنزول إلى القاع حيث يتعثر أبطال الفيلم ضحايا الظروف. أكاد أختنق من شدة الأوهام وكثرة الاتهام والرغبة في الانتقام، أنزعج من هذه الأدوار المستفزّة والمستنفذة للطاقة، إنّها مؤرجات تصيبني بالتأق الحاد، حتى الابينفرين لا يخلّصني منه.

 

بالعادة، أملك الحق في تغيير القناة إن لم يُعجبني الفيلم. ولكنّ هذا الفيلم يستعمر كل القنوات كاحتلال عدواني، يتفاقم كسرطان خبيث، يتكاثر كقنب هندي مسموم، ينتشر مثلما ينتشر فيروس الكورونا عبر العالم حاليا. الفرق بينه وبين الفيروس أنّ الأخير يمنحك فرصة للوقاية منه وتجنب الوقوع في أعراضه. أمّا الفيلم اللعين فلا يسمح لك بالفرار، يفرض نفسه عليك من كلّ الاتجاهات وإن اخترت الانعزال عن العالم، يغزو كل الشاشات مثل تخطيط قلب يقاوم الموت داخل غرفة عمليات.

 

سأصنع فيلما عن قصة واقعية بعيدة عن تلك الأوهام، لجمهور لا يبالي بالموجات الضاربة وأخر صيحات الموضة ولا يخشى المشي عكس التيار

أصبح خوفي الأكبر من أن أتأثر بمشاهده الملعوبة بإتقان حدّ تصديقها، أخاف أن يسمّم بأفكاره فكري ويقنعني بأخذ دورٍ فيه، أخاف أن يغريني بدور البطولة ويقحمني في ظلام شهرته وأوهام نجوميته، أخاف دخول زوبعة السلبية التي لا خروج منها إلا بأضرار وخيمة. أخاف على صحة صدري من جوٍ ملوث بالدخان المخدّر، أخاف الإدمان وإن كنت لا أتعاطى! أخاف على سلامة نفسي من عالم مشحون بالاستياء والتذمر والعجز. أخاف أن تُسلب منّي حكمة عقلي ونبض قلبي وتوهّج عيني. أخاف أن أفقد القدرة على السير إلى الأمام. أشعر أنّي جدّة امتلكتها حلقات مسلسل تركي لا ينتهي، يكبر الأولاد ويولد الأحفاد وهو لا ينتهي، البطلة لا تموت.. تبقى الضحية حيّة مسيطرة مستعمرة، تموت الجدّة وهي لا تموت.

 

أتسأل باستمرار حول حال الممثلين فيه؛ ما الذي دهاهم كي يعيشوا قصة هذا الفيلم البائس؟ ما الذي يستفيدون منه في تجسيد دور الإحباط والاستسلام واليأس؟ ما المُقابل في عيش دور الضحية؟ أسهل ما في هذه الحياة أن نعيش ضحايا، أن نمضي أيامنا في النواح على ما فقدناه من أنفسنا في عاصفة ظالمة ونغضب على ما لا نستطيع تغييره ونلطم على الحظ السيئ والفقر المكروه ونحقد على الصديق الغادِر والحبيب الخائن. ليس هناك أسهل من اتخاذ الوسادة قاضيًا والأرض شاهدة على سقوطنا، والأسهل من ذلك إنجاح هذا الدور في وجود جمهور تائه يصفق ولا يدقق، يستحلي ركوب أمواج السوق الضاربة ليبقى مختبئ مع الجماعة.

 

أليس الأفضل أن نقوم على أرجلنا ونقاوم ونرحم العالم من نواحنا؟ إلى متى سنعيش تحت رحمة الظلم والغدر والخيانة في وجود خيارات أخرى؟ لا أستصغر الظلم ولا أستخفّ بالغدر والخيانة، فهي أفعال لو كانت بيدي عصاً سحرية لقتلتها كلّها دون أن أشفق. وأفهم أنّنا نضعف ونحقد ونغضب ونتذمر ونيأس ونستاء أحيانا، كلّها لحظات نمرّ به وتستوقفنا لبعض الوقت ولكّنها لا تستهلكنا ما دمنا لا نعطها الحق في ذلك. لا يعرف قدر الجرح إلا صاحبه وهو الأجدر به مهما بكى على العالم واشتكى. فقط أرفض اتخاذ دور المظلوم والمغدور كنمط حياة وأسلوب تفكير ننهش به أفكار الآخرين ونتسلّط به على حياواتهم. أرفض تصدير هذه الموجة وكأنها أحدث صيحات المودة في العيش والتفكير. أغار كثيراً على تحمّل مسؤولية أفعالنا والمثابرة والعزيمة والتشبث بالأمل. لا أقبل تجريد الإنسان من قوته في صدّ المشاعر السلبية والأفكار الهادمة التي تجرّه إلى الوراء.

 

بما أنّني لا أستطيع تغيير الفيلم الموجود في الأسواق ولا إيقاف تفشيه، وجدت أن الحل الأسلم لمُواجهة هذه الموجة المستبدّة أن أصنع فيلماً منافسًا. سأصنع فيلما عن قصة واقعية بعيدة عن تلك الأوهام، لجمهور لا يبالي بالموجات الضاربة وأخر صيحات الموضة ولا يخشى المشي عكس التيار. سيكون فيلمًا من إنتاج التجارب وإخراج الدروس وتشخيص الأمل والتحدّي والمجازفة والرضى والعزم. فيلماً تشترك في بطولته الإيجابية والحب والجمال والهيول.. الكثير من الهيول! ستُلعب فيه الأدوار بالمجان ويعرض قريبا في كل القاعات السينيمائية، فهل من متفرج؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.