شعار قسم مدونات

حكاية السوريين في غربتهم السياسية

blogs لجوء

في عيادة الأمراض السياسية لعلاج التخوين والإقصاء والتهميش، يجلس المواطن السوري أحمد منتظراً دوره للقاء الطبيب المختص.
الممرضة: المريض التالي.
بخطى مترددة ووجه قلق يدخل أحمد غرفة الطبيب.
أحمد: مساء الخير يا دكتور
الدكتور: مساء الخير.. تفضل واجلس هنا.
أحمد: شكراً
الدكتور: ما مشكلتك يا أخ أحمد
أحمد: مشكلتي؟ مشكلتي هي أنني لا أعرف مشكلتي.. لا أعرف كيف أشرح ولا من أين أبدأ.. مشكلتي..
الدكتور مقاطعاً: إبدأ كيفما تشاء ومن حيثما تشاء.

أحمد متنهداً كمن يستجمع قواه: حسناً.. مشكلتي يا دكتور أنني أشعر بعزلة مريرة، وحيرة كبيرة، وانسداد إفق لا يؤمل معه انفراج، وضياع لا يرتجى من بعده هدى. أشعر بآلام مبرحة من انقلاب المفاهيم، وبأوجاع لا طاقة لي بها من تبادل الأدوار بين الحق والباطل.
الدكتور مبتسماً: هون عليك.. كم عمرك يا أحمد؟
أحمد: أربعون عاماً ونيف، وأنا أحلم منذ صغري بأن أكون صاحب قضية، حاملاً لهموم أمتي، مساهماً في بناء وطن جميل لطالما حلمت به وأنشدته في أناشيد الطفولة.
الدكتور: جميل.. ثم ماذا؟
أحمد: ثم انتسبت إلى حزب البعث لإنه كان الحزب الوحيد الذي سمح لي بالانتساب إليه حينها.
الدكتور: بداية لا بأس بها لتحقيق حلمك.
أحمد: هذا ما ظننته يا دكتور، ولكنني وبعد فترة وجيزة طردت من الحزب شر طردا.
الدكتور مستغرباً: لماذا؟
أحمد: لأنني أيقظت أمين الفرقة الحزبية من نومه العميق بينما كنا نناقش سبل تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، ثم سألت مسؤول حلقتنا عن العلاقة بين تحرير الجولان والقضية الفلسطينة وبين خلو الأسواق من السكر والمناديل الورقية.
الدكتور ضاحكاً: ألأجل ذلك طردوك؟ حسنا.. لا بأس من محاولة ثانية.. أليس كذلك؟

أحمد: قلت لهم أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وليست فصل الدين عن الشعب، ولا هي معاداة الإسلام دون غيره من الأديان. سألتهم عن سبب عدائهم لأردوغان الذي تحتضن دولته العلمانية ملايين السوريين

أحمد: أجل، وهذا ما أقدمت عليه تالياً. فمع بداية الثورة السورية المباركة وتحول حلم الحرية إلى واقع ملموس، تجدد لدي الأمل بالانتماء إلى تجمع أو حزب يجسد طموحاتي وآمالي. وسرعان ما وجدت ضالتي في تجمع لشباب مثقفين ينادون بالحرية والمدنية وإسقاط النظام و…
الدكتور مقاطعاً: يالعظمة تلك المظاهرات التي جمعتك بهم.
أحمد: لا يا سيدي.. لم تجمعنا المظاهرات بل وسائل التواصل والسكايب، ذلك أن معظم المنتمين إلى التجمع كانوا أصلاً قد هجروا البلد منذ فترة طويلة، وأما الباقين فقد فروا بأنفسهم مع بداية الثورة.
الدكتور: لا يهم طالما أن هناك تلاقٍ فكري وهدف نبيل. بالمناسبة.. ما اسم ذلك التجمع الذي انتسبت إليه؟ وما توجهات أعضائه؟
أحمد: إسمه "نخبويون في عليائنا" وهو خليط بين ليبراليين وشيوعيين وحتى ملحدين.
الدكتور: خليط غريب!! ولكن لا ضير في ذلك طالما أن ما يجمعهم هو تلك الغاية النبيلة التي..
أحمد مقاطعاً: هذا ما ظننته بداية، لكنني اكتشفت لاحقاً أنهم مجتمعون على معاداة الإسلام و"المتأسمين" أكثر من اجتماعهم على معاداة نظام الأسد نفسه.
الدكتور: حقاً!! كيف ذلك؟

أحمد: لقد كانوا يشمئزون و"يشمئطون" من تلك الهتافات التي يطلقها البسطاء في المظاهرات بداعي أنها ذات توجهات دينية مشؤومة من شأنها أن ترسخ الإنقسام بين أبناء الشعب الواحد.
الدكتور: عن أي هتافات يتحدثون؟
أحمد: هتافات على شاكلة " يا الله ما إلنا غيرك يا الله" و"قائدنا للأبد سيدنا محمد" وغيرها.. ولكنني ومن باب حرية الفكر التي يدعون اعترضت على ذلك وبينت لهم أن هؤلاء البسطاء الذين تعيبون عليهم هتافاتهم هم حملة الثورة وأولياء الدم وهم أكثرية تحمل موروثاً دينياً ثقيلاً ومخزوناً إيمانياً هائلاً لا يمكن تبديده بأفكار مستوردة تعارض عقيدتهم وأيديولوجيتهم.
الدكتور: أحسنت.. ولا شك أنهم أخذوا اعتراضك بعين الاعتبار.
أحمد مبتسماً بسخرية: نعم لدرجة أنهم طردوني طالبين مني تلقيح أفكاري ضد جراثيم الرجعية والطائفية قبل مخاطبتهم في عليائهم. ومع ذلك يا دكتور لم أفقد الأمل.
الدكتور: ماذا فعلت؟

أحمد: انضممت إلى فرقة سياسية لشباب سوريين أصحاب فكر راقٍ، لا تأخذهم في الحرية ولا المدنية ولا إسقاط النظام ولا الانتماء للثورة لومة لائم ولا ظلم ظالم. لا يهمشون أحداً ولا يقصون فرداً، ولا يعنفون مخالف وكل همهم فصل الدين عن الدولة والنظام الحاكم.
الدكتور: رائع.. إنها العلمانية يا سيدي!! ما اسم تلك الفرقة يا أحمد؟
أحمد: فرقة حسب الله
الدكتور ضاحكاً: كف عن المزاح يا رجل
أحمد: أنا لا أمزح يا دكتور.. هو ذا إسمها.. تيمناً بمؤسسها على الفيسبوك.. السيد حسب الله.
الدكتور متعجباً: الفيسبوك؟ ألم تلتق بهم في المظاهرات؟
أحمد: كلا يا سيدي، فقد استنكف جلهم وليس كلهم عن التظاهر إما خوفاً من بطش النظام أو استنكاراً لطائفية المتأسلمين.
الدكتور: ألم يرفعوا السلاح بوجه قاتلهم؟ ألم يحموا مدنهم وقراهم من بطش النظام وآلة حربه؟ ألم يريقوا دماءهم في سبيل الحرية وال…

أحمد مقاطعاً: كلا يا سيدي، ولكنهم وللأمانة هاموا على وجوههم في أوروبا يستنيرون بأفكارها ويستزيدون من علمانيتها ثم يقصفون الأسد بـ "بوستاتهم" و"تويتاتهم" فيؤلمونه أيما إيلام، ويوجعونه أيما وجع. وأما الدماء والبراميل والقصف والقتل والاغتصاب وحتى الدفاع عن الأرض وصون العرض فكانت من نصيب الغوغائيين من المتأسلمين.
الدكتور: لا شك أنك انسحبت إذاً.
أحمد: البتة.. بل إنني قلت لنفسي أن لكل ثورة قادة فكر وأصحاب رأي، يستظل بفكرهم وينتفع بعلمهم، حتى أننا نحن المتأسلمين رفعنا في مظاهراتنا لافتات التأييد لهم مسبغين عليهم شرعية تمثيلنا في المحافل الدولية. ولكنهم مع ذلك أقصوني وأبعدوني.
الدكتور: لماذا؟
أحمد: لأنني ظننت لوهلة أن هامش الحرية التي يزعمونها يسمح لي بنقدهم ومواجهة أخطائهم.
الدكتور: كيف؟
أحمد: قلت لهم أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وليست فصل الدين عن الشعب، ولا هي معاداة الإسلام دون غيره من الأديان. سألتهم عن سبب عدائهم لأردوغان الذي تحتضن دولته العلمانية ملايين السوريين. عبت عليهم تأييدهم المعارضة التركية ذات المواقف العنصرية اتجاه إخوانهم، ضد الحزب الحاكم الذي احتضن المهجرين والخائفين من أبناء جلدتهم. إستنكرت عليهم استنسابيتهم في قراءة الأحداث وتحليلها وكيلهم بمكيالين وتفصيل أحكامهم على مقاس أهوائهم وانتماءتهم. سألتهم عن مدى رواج فكرهم وتقبله لدى السوريين، وعن أهليتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية في تقرير مصير أمة وتحديد نظام حكمها وشكل دولتها. شككت في مدى التزامهم بمبادئ الحرية والديمقراطية التي يصدعون رأسنا بها وهم يقطعون يقيناً بأن سوريا علمانية، مع أنهم لا يشكلون أكثر من فتات أكثرية ساحقة لا ينكرها إلا معتوه أو مغيب.

الدكتور: وهل تلقيت إجابة على كل ذلك؟
أحمد ساخراً: نعم.. قالوا لي أنني إخواني أردوغاني صاحب فكر متخلف محكوم عليه بالسحق والسحل.
الدكتور: حقاً؟
أحمد: نعم.. لكن الطامة الكبرى كانت حين طالبتهم بعقد مقارنة بين تضحياتهم و تضحيات من يصفونهم بالمتأسلمين منذ أن تشكلت الدولة السورية حتى يومنا هذا.
الدكتور: فما كان جوابهم؟
أحمد: فاقد الحجة لا يجيب يا دكتور.. لقد طردوني.

يتبع في الجزء الثاني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.