شعار قسم مدونات

ميّ زيادة.. قلم الشرق الحزين

blogs مي زيادة

أتخيّلها كما رسمها من عاصرها، حسناء شرقيّة بشعرٍ داكنٍ قصير، وعيون لوزيّة ساحرة، وابتسامة هادئة مسالمة، أسرّت في داخلها الكثير من الوجع، ميّ زيادة، الاسم الذي ما إن ذُكِر، رأيت الفتاة العربية الشرقيّة المثقّفة، التي لم تنسلخ عن هويتها ولا مبادئها، ميّ -كما كانت تحب أن تنادى- أو باسمها الحقيقي ماري، التي جمعت سحر لبنان ومصر في عنفوانها، الفتاة الرقيقة المرهفة، الأنثى العاشقة المتيّمة بمحبوبها، والروح الوفية الصادقة، النسويّة الحقيقيّة التي حملت همّ تعليم المرأة وتطويرها دون ادّعاء أو زيف.

  

كانت مثالا حقيقيًّا في الأنوثة الصارخة والعقل الواعي والقلب الرؤوف، وهذا قد يفسّر نوعًا ما عدد الكتاب الذين وقعوا في غرامها واحدًا تلو الآخر فكانت ملهمتهم في حروفهم، وسرًّا من أسرار بوحهم، كان هؤلاء الأدباء يرتادون صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء، يتمتعون بحضورها الآسر، فاتنة جميلة متحدّثة تلقي عليهم مداد قلمها، وأعتقد أنّ هذا كافٍ لأسر قلب أي شابّ مثقف واع يبحث عن الأبدية في قلب أحدهم.

 

يقول أحد النقاد واصفًا هؤلاء الأدباء الذين ارتادوا صالونها: "صار الصالون وسيلة لإرضاء أشواقهم ولو بالنظر إليها ونيل قسط من الوصال المستتر بغطاء الصداقة الأدبية"، إلا أن قلبها لم يخفق سوى لواحد، أحبّته بكلّ روحها وبادلته الرسائل عشرين عامًا كاملة، دون لقاء، دون أن تسمع صوته أو أن تنظر في عينيه، كانت تعيش على حروفه وتكتفي بغزله وحبّه المكتوب على ورق، ويصلها شوقه المدسوس خفية بين أسطر الرسائل، تتمتّع بغزله البريء وحبها النقي.

 

لا تزالين يا مي أسطورة في الأدب الشرقي الساحر، وآمل أن أكون ممن أنصف قلبكِ وقلمكِ ومشاعركِ وصدقكِ، أخاطبك كصديقة، كقدوة أدبية
بطل قلبها الأديب الكبير جبران خليل جبران

أخبرته بخجل واضح في إحدى رسائل قلبها: "جبران، ما معنى هذا الذي أكتبه؟، إنّني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنّني أعرف أنك محبوبي وإني أخاف الحب، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرّط فيه؟ الحمد لله أنني أكتبه على ورق، ولا أتلفظ به، لأنّك لو كنت الآن حاضرًا بالجسد لهربت خجلا من هذا الكلام ولاختفيت زمنًا طويلاً فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى" وهنا يظهر التساؤل الدائم الذي يرتابني بعد قصص غرام الكتاب والأدباء في العصر القديم، هل بادرها الحبّ بهذه الدرجة من الجنون؟ هل عصف العشق بكيانه كما فعل بها؟ يقول بعض النّقاد أنّه أحبها بصدق، لكنّها كانت إحدى النساء اللواتي عبرن حياته فقط، أيّ أنّها لم تكن الوحيدة والأولى والأخيرة كما كان هو لها، ولكن من يدري!

 

في إحدى رسائله خاطبها بحنان بالغ: "تقولين إنك تخافين الحب! لماذا تخافينه؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟ لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحير"، هذا كان رأي جبران بالحبّ مخاطبًا روحها الخائفة وقلبها الرقيق، لعلّه يمنحها بعض الأمان في وسط كلّ هذا البعد والخوف، فقد كانت حروفه وحدها هي مداد قلبها وسرّ عمرها الذي تعلقت به.

  

قد كانت ميّ مرهفة لدرجة شديدة لا يمكن أن تُتَجاهل، قويّة، ومعتدّة بذاتها نعم، لكنّها رقيقة من الداخل كغصن ورد الربيع، وروحها خفيفة لطيفة كنسمة باردة في ليلة صيفية من آب، وقد يفسر هذا التحليل لشخصيتها تعلقها العظيم والكبير بجبران دون أن تراه، ويفسر أيضًا سبب انكسار قلبها بعد تتابع الضربات عليه، تسارعت الحياة فجأة عند ميّ، فقدت والدها عام ١٩٢٩، ثم ما لبثت أن تشفى من هذا الكسر لتجد نفسها أمام حدث عظيم هدّ روحها وحطّم ما بقي منها، فقد توفي حبيب روحها جبران عام ١٩٣١، حاولت أن تستجمع قواها إلا أنها عانت من جديد بعد عامٍ تمامًا وفقدت والدتها.

 

صارت ميّ كاتبتنا الفاتنة وحيدة حقًّا إلا من بعض أفكارها وخواطرها ورسائل متبقية، هنا نصحها عمّها للعودة إلى بيروت وترك القاهرة لمدة قصيرة كي تسترجع قواها وترمّم كسورها، وهنا كانت المفاجأة! اتهمها أقاربها بالجنون وحجزوا جميع أموالها طمعًا بها، وأدخلوها المصحة النفسية "العصفورية" رغمًا عنها، وبعد محاولات طويلة وتدّخل من أصدقائها، لمدة سنوات، استطاعت مي أن تعود للقاهرة ولكن هذه المرة مع الأسف لم تكن بصحة جسدية ولا نفسية جيدة، تابعت الكتابة، ولم تتوقف عن البوح، كتبت كل ما ألمّ بها في بيروت، وكلّ ما شعرت به من الظلم والقهر والجحود، ومن ثم شكرت كل من ساعدها وساندها، وختمت بآخر وصاياها متمنية أن ينصفها أحدهم يومًا ما!

 

وفارقت الفاتنة الحياة

المحزن حقًّا في قصتها أنه لم يخرج في جنازتها سوى ثلاثة أشخاص فقط، ولم يقف معها أو يساندها أحد من الكتّاب وصانعي الرأي العام في حقبتها، كانت وحيدة تمامًا وعاشت خذلاتها لوحدها، والآن وبعد عقود من وفاتها لا تزال حروفها صادقة حقيقية، ولم تتوقف مشاعرها عن النبض لجبران ويلمس صدق قولي هذا كلّ مطلع على الرسائل، ميّ مثال حقيقي رائع للأنثى الشرقية الرقيقة المميزة المثيرة لإعجاب كلّ من يراها، المحبة الوفية المخلصة.

 

لا تزالين يا مي أسطورة في الأدب الشرقي الساحر، وآمل أن أكون ممن أنصف قلبكِ وقلمكِ ومشاعركِ وصدقكِ، أخاطبك كصديقة، كقدوة أدبية، كأنثى ظلمت وعانت دون أن يسمع عن معاناتها الكثير، وصلني شعورك وألمك وحبك وعنفوانك وكلّ ما هو ساحر فيك.. آمل أن تصلكِ هذه الحروف يومًا ما يا ميّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.