شعار قسم مدونات

بروتوكولات الحكماء وفلسفة العرب لمواجهتها

BLOGS بروتوكولات

منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا كُتبت عشرات الكتب وخُطّت مئات المقالات وعُقدت عديد الجلسات الحوارية والتشاورية حول موضوع كتاب واحد هو عبارة عن تسريب لبعض المحاور والأفكار والأساليب والوسائل التي يتخذها اليهود -الصهاينة منهم- لتنفيذ مشروعهم المزعوم بالسيطرة ليس فقط على فلسطين، بل على مفاصل الحكم في العالم وصولا لتنصيب ملكهم الذي ينسبونه إلى نسل النبي داوود -عليه السلام-.

"بروتوكولات حكماء صهيون" أو "الخطر اليهودي" هما النسختان العربيتان الرئيسيتان المترجمتان عن الكتاب الإنجليزي "The Protocols of the Learned Elders of Zion" المترجم بدوره عن الكتاب الأصل للأستاذ الروسي "سيرجي نيلوس" الذي كتبه حفظا وتوثيقا ونشرا للوثائق التي وقعت بين يديه حول المخطط الرامي للسيطرة القسرية على الحكومات. والقارئ المنصف لهذا الكتاب، أو لغيره من الكتب التي تحدثت عن نفس الموضوع استنادا على هذه البروتوكولات نفسها، ليجد أنها مخيفة في الأسلوب الذي تدعو لاستخدامه لتحقيق مآرب أصحابها، ومخيفة أكثر حين تلحظ اتساقها وكثير من الأحداث التي جرت بعد ظهورها كأنها جاءت منذرة بصدق هذه النوايا على الأقل كمبادئ وأسس بغض النظر عن التفاصيل التي قد يكون حولها نقاش وحوار طويلين ليسوا ذوا فائدة تذكر.

ولأن الحديث حول تاريخ هذه البروتوكولات، أو الحديث عن مدى دقة ناقليها في نقلهم، ودقة مترجميها في ترجمتهم، أو الحديث عن صحتها وصحة نسبها لجماعة متآمرة فعلا لتحقيق هدف معين، أو المجادلة بشأن ما اتفقت معه أو اختلفت من الأحداث التاريخية والشواهد التي تلت كشفها، كلها أحاديث قد خيض فيها الكثير والكثير، وتعمق فيها الباحثون والنقاد حتى أشبعوها بحثا وتحليلا. فإنني أود أن أركز الحديث في جانبين مختلفين:

إن واضعي البروتوكولات قد اختاروا أن يكونوا هم اللاعبين على رقعة الشطرنج، بينما اختار زعماء العرب أن يكونوا أحجارا على هذه الرقعة كما جاء في وصف الكاتب الأمريكي الأستاذ وليام غاي كار في كتابه

أما الجانب الأول، فهو اعتبار هذه البروتوكولات منهجا حقيقيا لجماعة موجودة لها أذرعها وامتدادها، وبناءً على ذلك أسلط الضوء على حُسن التدبير وكمّ الإخلاص والبذل في سبيل الفكرة حتى لو كانت فكرة كريهة مقيتة قميئة دونية من وجهة نظرنا. وأما الجانب الثاني فهو في وزن الجهود العربية خاصة والإسلامية عامة في مواجهة مشروع خطير كهذا الذي بين أيدينا، وأي الوسائل قد استخدمنا وأي الإجراءات قد اتخذنا للحيلولة دون نجاحه، وهل يمكننا أن نكون جبهة واحدة موحدة لتواجه هكذا خطر محتمل، بل وله أثره الصريح والعميق في كياننا العربي؟

إن واضعي البروتوكولات من حكمائهم قد أولوا اهتماما صريحا بمشروعهم ووضعوه هدفا نصب أعينهم وتوارثوا العمل على تحقيقه كما يورّث الابن مغانم أبيه. ولنا أن نجد بين أسطر البروتوكولات ما يدل على التحفيز على التمسك بالمشروع الصهيوني وجعل من تخلى عنه كمن تخلى عن بناء "قرون من الزمان". وهذا الإيمان العميق بالمشروع طويل الأمد الذي ظهر على السطح علانية في مؤتمر بازل الذي قاده "ثيودور هيرتزل" عام 1897م، الذي جاء بكل تأكيد بعد سنين طويلة من التجهيز والإعداد له، والذي استمر لسنين طويلة إلى يومنا هذا وهو قائم يتمدد ويتوسع على الصعيدين الميداني والسياسي؛ لهو إيمان مثير للدهشة والاعجاب في آن واحد، ولو امتلكنا نحن العرب جزءا صغيرا من هذا الإيمان في مشروع تحرري شريف ونبيل تحت راية واحدة ولبناء وطن واحد، لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من ذلة ومهانة وتشرذم وتأخر في سلم الترتيب من بين الأمم والشعوب.

من جهة أخرى فإن واضعي البروتوكولات قد اختاروا أن يكونوا هم اللاعبين على رقعة الشطرنج، بينما اختار زعماء العرب أن يكونوا أحجارا على هذه الرقعة كما جاء في وصف الكاتب الأمريكي الأستاذ وليام غاي كار في كتابه، فبدل أن يعي الملك العربي أو القائد أو الزعيم أنه حجر معرض للكشّ برغم كونه محاطا بوزراء وبيادق وجنود، فإنه يستمتع بمملكته هذه أيما استمتاع وينسجم في حكمها أيما انسجام، ويحارب كل من صدح بصوته محذرا أو أخذ بالعزم مغيرا لواقع الأمة.

أما ما يخص الوسائل والأساليب، فإن حكماء صهيون قد استحلوا كل خبيث ونجس إذا كان من شأنه رفعة مشروعهم ونجاح مخططاتهم، لا يراعون حرمةً ولا يحترمون خُلقا ولا يلتزمون بقانون، وفي هذا السياق وعلى عكس المحفل الصهيوني فإننا نرى بعض المحافل العربية تستحل كل خبيث ونجس لطمس كل صوت منادٍ لاتباع الحق وللصحوة من الغفلة ولتوحيد الأمة ورصّ الصف وجمع الكلمة، حتى إذا خرست الألسن وصُمّت الآذان وعميت البصائر وزاغ البصر، أسلم العربي نفسه طائعا وديعا لا تشوبه شوبة مقاومة أو ممانعة أو مدافعة. وإنني ها هنا لا أدعو إلى استحلال الخبيث ولا استخدام النجس ولا اتخاذ ما ينادي به حكماؤهم كوسائل مسلم بها، بل هي دعوة للتنبه لهذا الخطر ومحاربته بدل التساوق معه أو محاربة من يحاربه.

ثم إننا نرى ونلحظ الجهد الكبير المبذول في تكوين التحالفات واختراق الجماعات وتمويل الحركات رغبة من الحكماء في السيطرة وامتلاك القرار الفصل حين يحتاجون إليه، وهم يكونون التحالفات مع المتناقضات المختلفة، فتراهم على حلف مع المعسكر الغربي كما هم على حلف مع المعسكر الشرقي، وينطبق ذلك على -تقريبا- كل تيارين مختلفين قد يكون لأحدهما أو كلاهما أثر يخدم مصلحة المخططات التي بين أيدينا، حتى إذا وقعت الواقعة واحتاجوا إلى الدعم والمساندة قدروا على توفير هكذا بيئة بكل سهولة، فيتحد الفرقاء على دعم مشروعهم. في مقابل ذلك يبرع العرب في تكوين العداءات فيما بينهم وفي تمويل المؤامرات الرامية إلى تدمير بعضهم البعض، وبالتالي لم يعودوا متفرغين لبناء تحالفات خارجية مع معسكرات كبرى أو تيارات أصغر، رغم امتلاكهم المال والقوة والنفوذ وهي عوامل نجاح ومزايا إضافية لكل من يريد أن يجعل لنفسه كيانا مؤثرا في العالم، لا كيانا منبطحا متأثرا بما يراد له أن يتأثر به.

وفي باب تكوين التحالفات، ما الذي يمنع العرب والمسلمين من تكوين جبهة مقاومة ضد المشروع الصهيوني مع أولئك الذين يحاربون هذا المشروع من مختلف البلدان والأديان، خاصة وأن طوائف دينية كثيرة تنظر إلى هذا الخطر كمهدد عالمي وجب التصدي له، ومن هذه الطوائف طوائف يهودية أرثوذكسية، وطوائف مسيحية سواء أرثوذكسية أو كاثوليكية، وهذه الطوائف نجد أن المشروع الصهيوني يحاول طمسها وتدميرها وتعريتها واستبدالها بالأفكار اللادينية كالإلحاد والشيوعية. كما نجد عديد الحركات اليسارية والليبرالية وبعض الحركات العلمانية كلها تقف ضد الصهيونية.

إن تكوين تحالفات كهذه من شأنه تشكيل جبهة أمام كرة الثلج المتدحرجة بتسارع نحو دعم قيام كيان "إسرائيل" في قلب الأمة العربية، ومن شأنه وقف هذا التمدد عند حده بل وإزالته في مرحلة من المراحل. وإنه بالرغم من أن الملاحظات كثيرة والكلمات والتعليقات حول الموضوع أكثر، إلا أن لهذا المقال نهاية لا بد أن يبلغها، وليكن هذا المقال كطرقة على جدران الخزّان، عله يجد من ينتبه أو يستيقظ، فلربما أخذ بالعزم وبدأ التغيير. أو لعله إن لم يجد أذنا مصغية، أن يجد طارقا آخر يضيف طرقة إلى ذات الخزان فيسمع من كان له أذن للسمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.