شعار قسم مدونات

الثورة فكرة.. والفكرة تموت

blogs ثورة يناير

تنسب هذه العبارة إلى أشخاص كثر عبر التاريخ من بلدان متفرّقة، لكن أياٌ كان قائلها فهو مخطئ.. كل شيء يموت، تموت الشجاعة في النفوس شيئاً فشيئاً مع كل مشروع مستقبلي شخصي تفكر فيه، فمستقبل ابنك الذي يدرس الآن باللغة التركية في مدرسة سيبقى طلبتها يتنمّرون عليه حتى لو نبش ألف محمود ألف منزل مهدم وأنقذوا ألف سيدة تعلِن السوريين شعباً مباركاً، هو تماماً السكّين الذي انتزع رجولتك.. وقبلها انتزع روح ذاك المقاتل العنيف الغاضب دائماً.. والذي اعتاد أن ينام متوسّدا جعبته فلا يتأخّر عن نداء مؤازرة!

   

أتذكر تلك الحروق على كفيك من أول معركة خضتها؟! عندما حملت رشاش "دوشكا" من سبطانته أثناء انسحابكم دون أن تعرف أنّ إطلاق الرصاص من فوهته لساعات متواصلة سيجعله قضيباً من نار؟! أتذكر كيف كنت تقلّب كفيك برضى وأنت تفكر "أول إصابة في سبيل الله" ذهبَت تلك الأيام يا بقايا الثائر، لم تعد تفاخر بمظهرك الرث بعد اقتحامٍ كساك بالغبار.. وها أنت ذا تجبر نفسك على حِمية لتخفيف وزنك! أنت نفسك الذي طوى الجوع يوماً معدته على ظهره عند اشتداد الحصار.. لكنّك لم تبالي وقتها كيف ستؤمّن الطعام!

  

كيف تحوَّل رجال قتلوا خوفاً عمره 40 عاماً إلى الطوابير؟! بل كيف دُجّن شباب كسروا هوياتهم بدايات الثورة غير مبالين بحواجز عسكرية تنتشر على طول البلاد وعرضها ستعتقلهم بلا شك على تلك الجريمة، فباتوا يلتزمون منازلهم من أجل "كيملك"

كان سؤالك الكبير.. كيف سنؤمّن الذخيرة؟! تموت الشجاعة يا صديقي.. ومعها النخوة والمروءة.. تشاهد مقطعاً مصوراً لمقاتل مازال يحمل روحاً نسيتَها يناشد المقاتلين لمؤازرة الجبهات، تغصّ.. ثم تستنقذك فكرة الجدوى من كآبة كان يمكن لها أن تلزمك فراشك ساعات طويلة، بالمناسبة أتعلم لم ترتاح كثيراً عند اضطجاعك للنوم؟! هل خطر لك يوماً أن أقرب ما يكون فيه الإنسان إلى الموت هو النوم؟ وأنه -أي الموت- إحدى الراحتين؟ إذا كنت ترتاح كذلك فاعلم أُخَيّ أنك لا تعلم نعمة الراحة الأولى، ولم يتمكن اليأس من نفسك بعد.

 

سأعطيك مؤشراً آخر، هل تشعر بالسلام والراحة عندما تصلك تلك الأخبار النادرة عن "استعادة" الثوار لبلدة ما؟ بعد شعورك بالضيق لساعات إثر سقوطها؟! كمن يتثاقل في القيام إلى الصلاة مماطلاً فيها رغم شعورك بالذنب يأكلك.. حتى يعلِن المؤذن دخول موعد الصلاة التالية فتشعر براحة من لا يملك أن يغير ما حدث؟! إذا كنت كذلك، فلم يتمكن منك اليأس بعد، اضطجع وأطل النوم.. أطله حتى تُميت به كل شعور مازال يتمرد داخلك.. أطله علّك تقتل تلك النفس الأمارة بالحق، التي تصرخ بك "يا جبان" أو أرسل آخر الليل لصديق في الداخل تطمئن عليه عارضاً مساعدتك له بأي شيء لعلّك ترضى، وإياك إياك أن يكون صديقك مازال مقاتلاً، فذاك لن يزيدك إلا تبارا، أو انظر في هواية ما تشغلك عن الخجل من رؤية نفسك في مرآة يضعها أمامك كل خبر عن إدلب.

 

يمكنك استعارة هوايتي المفضلة.. لف السجائر.. فذاك يستنزف وقتاً طويلاً ويتطلب منك تركيزاً في الأسابيع الأولى حتى تتقن اللف دون عناء، وصدقني أنت تحتاج أن تركز الآن على شيء آخر غير ما يحصل داخل حصن ضميرك، تموت الشجاعة والمروءة والنخوة يا صديقي.. كما تموت الكرامة، هل تذكر جولتك تلك داخل المخيم مترامي الأطراف الموزع بشكل عشوائي.. لكنه منتظم بشكل ما؟! هل تذكر الرجال يتزاحمون أمام سيارة توزع سِلل الإغاثة يشرف عليها موظف يصرخ بهم أن ينتظموا وإلا سيوقف التوزيع، فلا يجدون ما يسدون به رمق أهلهم؟! هل تذكر استجابتهم تلك لموظف ناعم يرتدي نظارة ريبون ويسوِّر معصمه بعلم الثورة ويقود سيارة "سانتافييه" يتنقّل بها بين سوريا وتركيا حيث يقيم، وهم من لم يكونوا ينتظمون إلا في صفوف مظاهرات الجمعة في بلداتهم وقراهم أمام قاشوشهم، مردّدين خلفه "ما نركع إلا لله"!

  

كيف تحوَّل رجال قتلوا خوفاً عمره 40 عاماً إلى الطوابير؟! بل كيف دُجّن شباب كسروا هوياتهم بدايات الثورة غير مبالين بحواجز عسكرية تنتشر على طول البلاد وعرضها ستعتقلهم بلا شك على تلك الجريمة، فباتوا يلتزمون منازلهم من أجل "كيملك" من ولاية أخرى خوفاً من الترحيل؟ وكيف يتنصّل من حملوا السلاح يوماً.. من تهمة "القتال" من أجل الحرية، فأصبح آلاف السوريين المتقدمين للجوء في أوربا "ناشطين لا عنفيّين"، بعد أن حذفوا صورهم من حساباتهم التي كانوا يتفاخرون بها بالبنادق بين أيديهم، أو بإشارة النصر فوق دبابة أسدية محروقة، بل كيف خنعَت جموع الفصائل لقرار تركي يلزمهم بالتهدئة على جبهات لا تبعد ساعات عن بلدات تمسحها آلة الإجرام الروسية من فوق البسيطة؟!.. بل كيف ينتظرون قبول "الجولاني" بدخولهم أرضهم التي حرروها بالدماء، ليدافعوا عنها اليوم بالدماء؟! كيف؟! قلت لك كل شيء يموت.

 

تموت الشجاعة والمروءة والنخوة والكرامة يا صديقي.. كما يموت الحلم، متى كانت آخر مرة حدثتك نفسك فيها بسقوط النظام.. ودخول الثوار دمشق فاتحين؟! عامان! أربعة! أم أنك ممن يتبعون أنبياء الواقعية السياسية.. فتمنّي النفس بحل سياسي تحت جناح "الحليف" القوي.. آخر "أصدقاء" الشعب السوري! لتدخل "بمعيّته" دمشق بعد الاتفاق على حكومة مشتركة! ومن يدري لعلك تصلّي الجمعة في المسجد الأموي يوماً كتفاً إلى كتف مع الرحمون والحسون، بعد خطبة جمعة يحمد الله فيها الإمام "التوافقي" على نعمة انتهاء الخلاف بين "أخوة الوطن"، تالياً الآية الكريمة "وكنتم على شفى حفرة من النار"، لكن إن لم يعد إسقاط النظام حلمك، فما الحلم؟!
وإن كان مازال حلمك.. فما السبيل؟! أم أنك تظن أن تغريداتك من حسابك على تويتر ذي العشرة آلاف متابع تقريباً، ستصبح قذائف تُصْلِي بلظاها الظالمين؟ وترد المعتدين على أعقابهم خاسرين؟

 

هل تذكر عندما قاتلت تحت الطيران الروسي والتركي والأمريكي تنظيم داعش؟ أتذكر استحياءك من عدوّك الذي اعتدت أنْ تشعر بنفسك ندّاً له تقارعه ويقارعك

ليس يفعل ذلك يا صديقي إلا سلاح بيد ثائر مجاهد ينكل بأعداء الله والأرض، يخوض معركته معهم كأنها الأخيرة قبل الجنة، أو الأولى على طريق التحرير.. بدم ثائر لم يفلح عقد من الزمان بكسر إرادته، وبقلب مؤمن مطمئن لنصر يراه ماثلاً أمامه، لكنك لا تطيق ما يطيق.. قد تُخاتِل نفسك بحجج كثيرة محقّة كثيراً عن الواقع والحال والمستقبل والدراسة والعمل والمسؤولية والأهل والأبناء و…، لكنك لا تطيق ما يطيق، فقد ماتت يا صديقي إرادتك كما ماتت الشجاعة والمروءة والنخوة والكرامة والحلم.. وبموت كل هذا تكون الفكرة قد ماتت.

 

لكن إن شئت الحق فليس كل ذلك ذنبك، فهذا عصر العمل مع "الحلفاء"، وأنت -هداك الشيطان- لم تتعلم أن تسمي خنزيراً نفق بـ "شهيد القدس"، كما أنّ النفاق الممنهج ليس أمراً تستطيعه! ولا أظنك تتقبّل تشكيل كتيبة من "الشواذ" يحملون العلم الملوّن، ويعلنون قتالهم ضمن صفوف فصيلك شيوعيّ النّشأة بعد أن صبغتَه باللون الأصفر وأسميتَه "تبرّكاً" ديمقراطيا، فالوحيدون الذين كان يمكن لهم فعل أمر مشابه، قد غادروا البلاد منذ زمن طويل هرباً من "المتطرفين"، فحصلوا على جنسيات أوربية، وأسسوا منظمات للعدالة ترقُب قدمك التي تعفّرت يوماً على جبهات رسمَت حدود الحرية في أوطانهم القديمة، لتخطو فوق شوارع أوطانهم الجديدة النظيفة، فيحاكموها معلنيك إرهابيا، ليست مشكلتك أنك لا تجيد "التنسيق" مع الحليف ملتزماً بأوامره، فتتمرد كل حين كاسراً قيوداً أثقلَت يديك، حتى يرِدَك اتصال من المترجم يحذرك فيه من التمادي، لست وحدك.. وليس هذا ذنبك، فمصيبتك أنك وُلِدت في جيل يدمن الأسطورة.

 

هل تذكر عندما قاتلت تحت الطيران الروسي والتركي والأمريكي تنظيم داعش؟ أتذكر استحياءك من عدوّك الذي اعتدت أنْ تشعر بنفسك ندّاً له تقارعه ويقارعك.. تتسلل ويتسلل.. تنكل وينكل.. لدرجة لم تستطع أن تنظر بعيني أسير منهم كانتا تصرخان بك للمرة الأولى "يا جبان"!
لم تصحُ بعدها على نفسك إلا وأنت تُساق إلى معارك بأسماء "مائعة" كأنها عناوين مشاريع "تمكين للمرأة" مقدمة لمنظمة دولية؟! صدقني هذا ليس ذنبك فالبطولة عندك هي أفغانستان وخالد بن الوليد ورامبو!

  

والحقيقة التي كنتَ تجهلها عندما صنعتَ الأسطورة في مخيّلتك، والتي لن تستطيع انتزاعها اليوم حتى وأنت تعلم حقيقتها، أنّ المجاهدين الأفغان سلّحتهم أمريكا بمضاد طيران هو كل ما تحتاجه منذ ثمانية أعوام لإسقاط النظام، وأنّ خالداً لم يكن ذاك المتهور الذي يشقّ الصفوف طلباً للموت عندما تكون المعركة غير متكافئة، بل إنّ أُولى معاركه التي قاد بها المسلمين كانت "انسحاباً" لإنقاذهم من مقتلةٍ محققة، أما رامبو فلعلك تدرك اليوم أنه لا يختلف كثيراً عن أي جندي أمريكي أو روسي.. صورة معلبة زائفة، والبطل الحقيقي طائرة تحلق بسرعة فائقة وبتكنولوجيا متقدمة، تسحق نقاط الدفاع أمام آليات مدرعة يخاف "رامبو" الترجل منها قبل أن يطمئن أنك بعيد كثيراً كثيراً.. أبعد حتى من نطاق صاروخ م.د من تقنيات الحرب العالمية الثانية هو كل ما سُمح لك بامتلاكه، حينها فقط يتفقّدون أرضهم التي احتلوها على حذر، خشية عاشق لأرضه ينتظرهم خلف جدار مهدوم ليفجّر نفسه فيهم.

  

متى كتبتُ كل هذا؟

لعلّه يصلح مقالاً أنشره؟

لكن ماذا لو رفضوا؟!

حسناً سأنشره عندها على تويتر وفيسبوك، ربما يحصد متابعين جدد.

هيه مهلاً.. ماذا عن إدلب؟ والكرامة؟ والثورة؟ والفكرة؟؟!!!

أف.. إليك عني.. إنما أنا ربّ رغيف العيش.. ولإدلب ربّ يحميها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.