شعار قسم مدونات

وهم الاندماج والعودة إلى وستفاليا

BLOGS الاتحاد الأوروبي

ودقت الساعة تمام الخروج، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مسدلة الستار على فصول من الشد والجذب بدأت منذ أكثر من ثلاث سنوات لتمتد إلى 1975 حين طرحت فكرة خروج بريطانيا مما كان يسمى الجماعة الأوربية أول مرة. حيث أقيم حينها استفتاء صوت فيه البريطانيون لصالح البقاء في الجماعة، لكن الأمل بقي يحدو نفوس أولئك الذين في قلوبهم حنين إلى أمجاد إمبراطورتيهم العظمى التي لا تغيب عنها الشمس وبقوا على قيد الأمل يحلمون بأن تدق ساعة "بيغ بين" يوما معلنة تمام الخروج.

  

خروج بريطانيا وإن لم تعلنه ساعة "بيغ بين" المتعطلة بداعي الصيانة خلق ندبة في جبين الاتحاد وغصة في نفوس أولئك الذين ناضلوا طويلا من أجل أوروبا الموحدة. وأنهى حكاية قرابة خمسة عقود من "الوحدة في التنوع" التي جمعت بريطانيا بدول الاتحاد.

  

ظل الاتحاد الأوربي واحدا من أهم تجارب الاندماج الإقليمي التي عرفها العالم بل وأنجحها جميعا إذ تفوق في الكثير من المجالات حتى تلك التي أخفقت فيها الدولة الوطنية

لقد أنهت معاهدة وستفاليا سنة 1648 تاريخا طويلا من الحروب الدينية في أوروبا كانت خلاله أوربا تنام على أنهار من الدماء وتصحو على تلال من الجماجم، وأرست معالم نظام قائم على الدولة الوطنية التي تتمتع بالسيادة والاستقلال وذات حدود جغرافية معلومة. لكنها لم تمنع تجدد الحروب بين دول أوروبا حيث لم تكن أوربا تنفض عن نفسها غبار حرب حتى تتدثر بركام حرب أخرى، ولعل أخطر هذه الحروب هو الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت أراضيها مسرحا لها وشعوبها حطبا للهيب نيرانها. وقد سعت الدول الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى البحث عن آليات تتجاوز من خلالها العداء الذي طبع علاقاتها التاريخية من أجل بناء السلام فيما بينها والتقليل من علاقات الصراع والتنافس وتحقيق رفاه الفرد الأوروبي، وفي سبيل مواجهة القوى العالمية الجديدة التي أخذت تشكل تهديدا لتصدر الدول الأوروبية النظام العالمي.

 

فكانت البداية، بداية طريق الوحدة الطويل الشاق مع الفرنسي روبير شومان – الأب الروحي للاتحاد الأوروبي- من خلال الجماعة الأوربية للصلب والفحم عام 1951 ومن يومها أخذ التعاون الأوروبي يتوسع رافعا شعار أولوية الاقتصادي على السياسي في البداية حيث لعب الاقتصاد دور القاطرة التي قادت عربات أوروبا نحو بر الاتحاد والاندماج، لتتلاشى جميع الحدود الفاصلة بين الدول وتذوب بحلول عام 1995 وتوقيع اتفاق شنغن الذي منح الأفراد حرية التنقل بين أرجاء أوروبا. فمن الجماعة الأوروبية للصلب والفحم نواة الاتحاد الأولى مرورا بالمجموعة الأوربية وصولا إلى الاتحاد الأوروبي، تدرج التعاون الأوروبي من السياسات الدنيا إلى السياسات العليا ومن الاقتصاد والتجارة إلى السياسات الأمنية والسياسة الخارجية المشتركة مرورا بالكثير من القطاعات الهامة والحساسة التي لا يمكن للدولة الوطنية التنازل عنها والتفريط بها بسهولة، حيث عمل الأوربيون على تحويل ولاءات الفرد الأوروبي نحو كيان جديد فوق الدولة الوطنية بمفهومها الوستفالي وكاد هذا الكيان الجديد أن يعوض أو يلغي دور الدولة الوطنية في كثير من الحالات.

    

لقد ظل الاتحاد الأوروبي واحدا من أهم تجارب الاندماج الإقليمي التي عرفها العالم بل وأنجحها جميعا إذ تفوق في الكثير من المجالات حتى تلك التي أخفقت فيها الدولة الوطنية، واستطاع أن يحل بعبقرية مؤسسيه وتغليبهم للمصلحة الأوروبية العامة على مصالحهم الضيقة تلك العقدة المستعصية من تاريخ العداء الفرنسي الألماني مؤكدا على مقولة السلام الديمقراطي وأن الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، وقد شكل تحديا لمبادئ دولة وستفاليا وفي مقدمتها مبدأ السيادة والاستقلال.

  

شكلت قوة الانتماءات والهويات الفرعية الأوربية واحدا من أهم التحديات أمام استمرار الاتحاد الأوروبي في التوسع (الرفض الأوروبي لانضمام تركيا ذات الهوية الإسلامية يندرج في هذا الاتجاه) وفي ظل بروز الحركات القومية والشعوبية وازدهار حركات اليمين المتطرف في أوروبا وخفوت تيار الوحدة والأوروبية باتت الشعوب الأوروبية تنزع نحو الانفصال والاستقلال. والبريكست وإن كان في ظاهره بسبب الرسوم الأوروبية والأعباء الاقتصادية فإن في باطنه يحمل رغبة كثير من البريطانيين في الاستقلال التام عن الاتحاد الأوربي، وبعد أن سقطت نجمة من علم الاتحاد هل سنشهد تساقط المزيد من النجوم مقابل تراجع وانحصار اتجاه التكامل والاندماج؟ أو هل سنشهد تفكك الاتحاد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.