شعار قسم مدونات

صناعة الآخر وتعزيز الانتماء.. لماذا نحتاج إلى تغيير خطابنا

blogs عمل

"صناعة الآخر" و"الانتماء" هما مفهومان أساسيان ساهما في تشكيل مجتمعات القرن الحادي والعشرين. ويبدو أن أنظمة العالم المعاصر تزدهر عبر تسليط الضوء على الاختلافات "بيننا" و"بينهم"، مع بداية ظهور أنظمة الدولة الحديثة التي تسعى لبناء مجتمعات أكثر تماسكًا بناءً على الهويات الوطنية.

  

وتحدث "صناعة الآخر" على مستويات متعددة، حيث يمكن أن تبدأ بالمؤسسات والسياسات والقوانين المحلية والعالمية، وتتوزع على طول الطريق إلى الهويات الشخصية حيث تُعرَّف "الذات" في مواجهة "الآخر". وتظهر "صناعة الآخر" عندما تُنكِر "مجموعة عامة من الإجراءات الشائعة إنسانية شخص ما تمامًا بناءً على تصور مفاده أنه أقل كفاءة من مجموعة معينة". ويُمكن أن يحدث ذلك أيضًا عندما يُنظر إلى تلك المجموعات على أنها تمثل تهديدًا للمجموعات الأخرى. كما يُمكن أن تكون "صناعة الآخر" مستندة على القدرة، أو النوع الاجتماعي، أو الأصل، أو الدين، أو العرق، أو الفئة، أو لون البشرة، أو العمر"[1]. ويصف باول "صناعة الآخر" بأنها "مجموعة من القوى المحركة والعمليات والهياكل التي تؤدي إلى حدوث التهميش وترسخ لعدم المساواة باستمرار في أي مجموعة كاملة من الاختلافات البشرية بناءً على الهويات الجماعية"[2]. وتكون المواضيع الرئيسية للبحوث هنا هي العمليات، والتركيبات، والهويات الجماعية، والاختلافات البشرية، التي تساعدنا على فهم جذور صناعة الآخر وتفكيك بعض من تلك الروايات السردية الراسخة والاختلافات المتبلورة.   

  

التخلي على الرؤى الاستشراقية

"صناعة الآخر" هي حقيقة عالمية، وكثيرًا ما تسلط الأضواء على منطقة الشرق الأوسط باعتبارها الموقع الرئيسي لصناعة الآخر والضحية الرئيسية لهذه الظاهرة بسبب الآراء الاستشراقية والغرام الراسخ بـ "الشرق الغريب". وتتجلى هذه الآراء الاستشراقية في صور اختزالية محددة للشرق، وتشتمل على مفاهيم مثل "النظرة الذكورية"، والمرأة الشرقية الخاضعة، والعنف الذكوري في الشرق الأوسط، والمجتمعات المتطرفة، وأنماط الحياة الباذخة. وقد ابتليت النظرة الغربية المشوهة للشرق في صناعته للآخر بالرؤى المزدوجة فيما يتعلق بالحداثة والتقليد. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يرتبط اهتمام الغرب بدراسة الشرق بأهداف استعمارية يمكن تحقيقها عن طريق الأنظمة التعليمية التي ترسخت لدراسة "الشرق" من منظور الغرب. وقد بلورت هذه المؤسسات الرؤى الاستشراقية المشوهة عن الشرق وعززتها بشكل إضافي، وهو ما عزز من تفوق الغرب على الشرق.

  undefined

  

وتتميز "صناعة الآخر" في منطقة الشرق الأوسط بأنها غالبًا ما تكون عملية ذاتية في كثير من الأحيان. ويساهم هذا الأمر في تفكك المجتمعات وتعزيز أوجه غياب المساواة والانقسام فيها، بالإضافة إلى عدم كفاءة الأنظمة والهياكل الإدارية، وهو ما يساعد في ترسيخ الآراء الاستشراقية عن الشرق، وتيسير استمراريتها في نهاية المطاف. وما نحتاج إلى فعله هو تغيير خطابنا المتعلق بالتمييز وتحويله إلى خطاب يعزز المسؤولية، أي تحويل الخطاب الذي يعزز "صناعة الآخر" إلى خطاب يُبرز قيم "الانتماء" والمواطنة.

 

إعادة بناء إحساسنا بالانتماء

لا يتمثل نقيض "صناعة الآخر" في أن نكون جميعًا متشابهين، ولكنه يتمثل بالأحرى في تعزيز الشعور بالانتماء. ولا يتعين علينا أن نكون جميعًا متشابهين لتعزيز الانتماء أو لكي يُنظر إلينا باعتبارنا بشرًا متساويين في الحقوق والفرص المتاحة لنا، ومتكاملين. ويمكن تعريف الانتماء بأنه نفس المجموعة من "القوى المحركة، والعمليات، والهياكل التي تجعل العضوية الشاملة للفرد في المجتمع ممكنة"[3]. وهذا التصور ضروري لتفكيك خطابات "صناعة الآخر"، وإعادة بناء خطابات وهياكل تعزيز "الانتماء". ولا تكمن المشكلة في الاختلافات بين البشر، لأن تلك الاختلافات تمثل جانبًا طبيعيًا من جوانب الوجود البشري؛ ولكن المشكلة تبدأ عندما نمنح امتيازات ومزايا سياسية معينة لبعض من تلك الاختلافات على حساب الأخرى، ثم نضفي الطابع المؤسسي على تلك الامتيازات والمزايا. وقد أصبحت تلك الممارسات متأصلة في مجتمعاتنا وأعادت إنتاج أنظمة التمييز، التي يمكن أن تكون عصيةً على التفكيك وإعادة التشكيل.

 

ويُغرس هذا المفهوم المتعلق بـ "صناعة الآخر" في عقولنا كل يوم من خلال مؤسساتنا التعليمية، وعائلاتنا، ومؤسساتنا العامة. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن رؤية رسائل التذكير اليومية بما يفرقنا بدلًا مما يوحدنا في الإعلانات التجارية التلفزيونية، والحملات الإعلانية على وسائل التواصل الاجتماعي، واللوحات الإرشادية، والرسائل اللغوية وغيرها الكثير. ويتواجد مصطلح "صناعة الآخر" بين الناس من نفس الثقافة، حيث تستمر الانقسامات على هوامش النوع الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية، والألقاب العائلية، واللغات، والسلالة، والعرق.

 

وفي الشرق الأوسط، يشيع رؤية "صناعة الآخر" القائمة على التمييز بين النوع الاجتماعي. وقد أدت هذه الممارسات الذكورية ومظاهر التحكم في حياة المرأة إلى ظهور حالات القتل بحجة الدفاع عن الشرف، وآخرها حادثة مقتل إسراء غريب في فلسطين. وتحدث حالات "صناعة الآخر" القائمة على التمييز بين النوع الاجتماعي على مستوى وطني مثلما هو الحال في المملكة العربية السعودية، حيث مُنعت النساء من قيادة السيارات لفترة طويلة قبل أن يُسمح لها مؤخرًا القيام بذلك في إطار الخطاب التقليدي حول الأدوار المناسبة للنساء في المجتمع. ويُمكن كذلك تعريف هوية المرأة بالإشارة إلى ارتباطها بفرد ذكر من أفراد المجتمع، ونادرًا ما ينظر إلى النساء كأفراد في بعض المجتمعات. وهذا لا يعني أن النساء دائمًا ما يقعن ضحايا للمجتمع الذكوري؛ فقد تطورت هذه المفاهيم بعدة طرق، ولكن التمييز على أساس النوع لا يزال منتشرًا.

 

بالمثل، فإن هذه منطقة للهويات متعددة الطبقات على الصعيدين الوطني والعابر للأوطان. وما يضيف إلى هذا التعقيد هو الاختلافات بين الطبقات، التي تقدم مسوغات إضافية لصناعة الآخر في المجتمع. ففي مصر، سوف تظهر لنا جولة واحدة في شوارع القاهرة وجود عالميَّن متضاربيّن في نفس المساحة ومتقاطعيّن في مستويات مختلفة لإنتاج الاختلافات بين الطبقات والحقائق البديلة. وتتمتع طبقة النخبة في مصر بالعديد من الامتيازات والرفاهيات، بينما توصف الطبقات الدنيا والوسطى والعاملة باستخدام كلمات مهينة مثل "سبرسي" أو "فلاح" لوصف ملابسهم ومهاراتهم الحوارية. وفي المقابل، يُوصف الشخص من الطبقة العليا بأنه "ابن ناس" للتعبير عن الاحترام. ومع تلك الكلمات والمفاهيم، لا تتعرض تلك الفئات للتهميش فحسب، ولكنها تشعر أيضًا بأنها تمثل عبئًا على الدولة. ويتقلص دور الطبقة الدنيا والوسطى في السياسات الوطنية التي تشكك في ولائهم للدولة، حسبما رأينا خلال ثورات الربيع العربي وما تلاها، ومن ثم فإن "صناعة الآخر" تكون حاشدة ومؤسسية.

   

إذا ما أردنا حقًا إيجاد حلول لمشاكلنا، فسوف نحتاج إلى تغيير تركيزنا إلى خطاب يعزز "الانتماء" الذي يعني كيفية تحديد وضع المجموعات وفهمه بشكل هيكلي في المجتمع

  

"صناعة الآخر" في الخليج

من أمثلة "صناعة الآخر" ونزع الصفة الإنسانية عنه، في منطقة الخليج، السيدة صفاء الهاشم، وهي النائب المنتخبة الوحيدة في البرلمان الكويتي لعدة دورات برلمانية منذ حصول المرأة الكويتية على حقها في التصويت في الانتخابات البرلمانية خلال عام 2005. فقد ميزت صفاء الهاشم بشكل غير مبرر ضد جميع الوافدين في الكويت باستخدام خطاب قومي، حيث طالبت مرارًا وتكرارًا بفرض ضريبة على الوافدين مقابل الهواء الذي يتنفسونه في الكويت ومقابل سيرهم في الشوارع". ويشكل الوافدون نسبة 70% من سكان الكويت، ولكن صفاء الهاشم ادعت أنهم لا يقدمون أي مساهمات إيجابية للمجتمع. وعلى الرغم من ذلك، حافظت الهاشم على شعبيتها، ولا يزال يُنظر إليها باعتبارها نموذجًا إيجابيًا للمرأة الكويتية في عالم السياسة. ويشير ذلك إلى وجود درجة من التسامح مع مثل هذه الأفكار. 

 

بالمثل، جرى تهميش قضية وجود عدد كبير من الأفراد الذين ينتمون لفئة البدون (وهم أشخاص لا يتمتعون بالجنسية الكويتية أو بأي وضعية قانونية) في الكويت لفترة طويلة. وعلى الرغم من وجودهم في البلاد منذ استقلالها، فقد مُنعوا من الحصول على أي حق من حقوق المواطنة. وقد أدى هذا النوع من "صناعة الآخر" إلى تنامي خطاب نزع الصفة الإنسانية عن أفراد هذه الفئة. والشيء المفزع هنا هو أن هذا الخطاب لا يتم التسامح معه فحسب، ولكنه يتكرر بشكل مستمر كذلك إن لم يُحتفى به. فقد ظهرت صفاء الهاشم على غلاف مجلة فوج العربية باعتبارها أيقونة للموضة. واختيرت بلسم الأيوب، وهي رائدة أعمال وصفت أفراد فئة البدون بأنهم "بكتيريا" لمقابلة دوق كامبريدج خلال زيارة رسمية حديثة له إلى الكويت.

 

لماذا يتعين علينا "تغيير خطابنا"

إذا، ما الذي نفعله لإنتاج خطاب مضاد لمكافحة "صناعة الآخر"؟ وهل نفهم أن الأيديولوجيات لها تأثير واضح على المجتمعات ويمكن استخدامها إما لإنتاج مجتمعات متماسكة أو لإحداث الصراع والانقسامات؟

 

الإجابة بسيطة وهي أن ما نركز عليه ينمو ويزدهر. وإذا ما أردنا حقًا إيجاد حلول لمشاكلنا، فسوف نحتاج إلى تغيير تركيزنا إلى خطاب يعزز "الانتماء" الذي يعني كيفية تحديد وضع المجموعات وفهمه بشكل هيكلي في المجتمع. ويتعين علينا التركيز على الهياكل، وكيفية تحديد وضعية الأفراد في تلك الهياكل، حيث تعزز هذه الهياكل من "صناعة الآخر"، وتُنتج رسائل تذكير منهجية عن معنى أن تكون مختلفًا. وينظر الأفراد إلى هذه الاختلافات بشكلٍ سلبيٍ بعد ذلك. وقد كان هذا الخطاب الذي ركز على تعزيز "الانتماء" هو ما أدى إلى الحركات الناجحة لمارتن لوثر كينج، وساهم في تغيير السياسات والتصورات خلال مرحلة لاحقة. ويتعين علينا تغيير تركيزنا إلى إنتاج رسائل تذكير تعزز "الانتماء" بدلًا من تكريس عملية "صناعة الآخر"، وتسليط الضوء على أوجه الشبه بدلًا من إضفاء وصمة على الاختلافات. وبصفتنا أفرادًا ومجتمعاتٍ، يتعين علينا أن نترفع عن الأجندات السياسات والاقتصادية وأن نرى البشر من خلال عدسة الإنسانية. 

 


[1] Powell, the Problem of Othering: Towards Inclusiveness and Belonging,” Othering & Belonging Expanding the Circle of Human Concern, Issue 

[2] المرجع نفسه

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.