شعار قسم مدونات

موسم الهجرة إلى الشمال السوري

blogs سوريا

تسع سنوات ونحن نفر من موت إلى موت، ومن عراء إلى عراء، ومن تشرد إلى تشرد، ومن جوع إلى جوع، وأقدامنا تغوص في طين مجبول بدماء أبنائنا، تسع سنوات ونحن كلما لجأنا إلى سقف هدموه فوق رؤوس أطفالنا، وكلما أسندنا ظهرنا إلى بقايا حائط دمروه في محاولة لكسر عزيمة صبرنا، وكلما حاولنا أن نلتقط أنفاسنا تحت ظل شجرة أحرقوها في محاولة لخنق بقايا آمالنا.

   

تسع سنوات ولم يلتفت إلينا أحد، لا أبناء جلدتنا العربية، ولا أبناء هويتنا الإسلامية، ولا حتى أي أحد من أبناء البشرية، تسع سنوات وكأننا نعيش بمفردنا في كوكب من الجحيم، لا ندري هل نحن بعيدون إلى هذا الحد عن كوكب الأرض؟، أم أن الأرض تحولت كلها إلى جحيم ولم يعد بها بشر سوانا، حتى الفصول تآمرت علينا، الشتاء يقتلنا ببرده ويجمد دماءنا بصقيعه، والصيف يشوينا بحره، وتعصف بخيامنا رياح الخريف، والربيع لم يعد موسماً سوى لقطف أرواح الزهور من أطفالنا.

  

حتى السماء إذا ما بكت علينا أغرقت خيامنا بدموعها، هدموا وطننا وبيوتنا صارت رمادا، وبنوا فوق عظام أجسادنا أهرامات من الأحزان والآلام، جفت الدموع في أعيننا، ولم يبق إلا النيران التي تزيد لهيب الغل والبارود لهيباً في أكبادنا، وفوق كل هذا يهددون ويخوفون الناس بنا، إذا ما خرجنا من حائط الجحيم الذي يطوقنا، وكأننا يأجوج ومأجوج.

  

نعم الجحيم ولا حضن الأسد، هذه حقيقة يمارسها السوريون كل يوم رغم موتهم ورغم قهرهم، والعالم لا يرى، سوى كذبة الإرهاب، لكن الهجرة الحقيقية الطوعية إلى الشمال السوري، لم يبدأ موسمها بعد

نحن لسنا بيأجوج ومأجوج، نحن أينما نحل تكون الحياة بأبهى صورها، وأجمل ألوانها، اسالوا عنا في أوروبا في مصر في تركيا، في كل مكان حل فيه السوريون الهاربون من الموت، كيف أثروا في كل مكان حلوا فيه، أكثر مما تأثروا به، على الرغم أنهم ضيوف مستضعفون، خرجوا من الموت في آخر رمق لهم، أينما ذهبنا نكون حاملين معنا أعلى رصيد من الحضارة الإنسانية، والتي أول ما نشأت في بلادنا، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن سوريا أم الحضارات وأصل البشرية، ولا عيب في سوريا إلا آخر حقبة عاشتها في ظل الحكم الأسدي، والسوري أبدع في كل مكان وفي كل زمان، إلا في عهد ما يسمى "القيادة الأسدية الحكيمة"، والتي قضت على الحكمة والإبداع وقبل كل شيء قضت على شيء اسمه إنسانية.

 

نحن بشر يا ناس ولا نريد منكم لا أوربا ولا أمريكا ولا تركيا، ولا غيرها من البلدان والجنان، نحن نريد خيمة على أي تلة أو في أي وادٍ من سوريا، لكن كل الذي نتمناه ونطلبه منكم ألا تصل إلى سماء تلك الخيمة الطائرات، وألا تطالها الصواريخ والمدافع، هذه هي أقصى ما في أحلامنا، هل تعرفون ماذا يعني أن تهجّر من بيتك بعيداً عن آلام الجوع والبرد والتشرد؟، إنك تنزع الجسد عن الروح التي تبقى متعلقة بالشبابيك والأبواب، تتغلغل داخل كل طينة بين حجر وحجر، متعششة داخل كل زاوية من البيت، مغروسة في أعماق الأرض، كيف للجسد أن يذهب وينتزع الروح من بين كل هذه الاشياء، ناهيك عن فقدانك لأهلك وجيرانك وأصدقائك الذين فقدتهم جميعاً دفعة واحدة.

 

كل الذي تحدثنا عنه هو تهجير قسري وليس هجرة، نعم تهجير قسري بالبراميل والصواريخ والطائرات، تهجير قسري بالموت والتدمير وسياسة الأرض المحروقة، والتي تمارس علينا منذ تسع سنوات، لكنه في ذات الوقت هو هجرة طوعية، نعم إنها هجرة طوعية، ألا يتساءل أحدكم لماذا يذهب الإنسان السوري الى الشمال إلى حيث الجحيم و"الإرهاب"، في حين لم نجد أحد يتجه إلى ما يسمى "حضن الوطن" إلى حيث الأمن والأمان كما يدعون، هنا تتجلى الحقيقة ناصعة أمام العالم المتعامي عن مأساتنا، لأن الشمال ورغم كل ما يكتنفه من جحيم، أهون من جحيم ما يسمى "حضن الوطن" ولا يوجد إرهاب في هذا العالم مثل إرهاب النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين، الكثير من السوريين ربما يكون هذا هو التهجير السابع أو الثامن أو العاشر لهم، لكنهم في كل مرة يذهبون من الشمال إلى الأكثر شمالا.

  

نعم الجحيم ولا حضن الأسد، هذه حقيقة يمارسها السوريون كل يوم رغم موتهم ورغم قهرهم، والعالم لا يرى، سوى كذبة الإرهاب، لكن الهجرة الحقيقية الطوعية إلى الشمال السوري، لم يبدأ موسمها بعد، وسيبدأ ـ إن شاء الله ـ إذا ما حصل الشمال السوري على سماء وأرض آمنة بشكل حقيقي، عندها وعلى تلك الرقعة المساحية الضيقة، والتي باتت تكتظ بعدة ملايين من البشر، ورغم انعدام أدنى مقومات الحياة اليوم، عندها وبعد أشهر قليلة ستصبح حلماً لكل مواطن سوري يعيش في ظل نظام الأسد.

 

من أجل ذلك فالنظام السوري ومن معه من الروس والايرانيين مدركون لهذه الحقيقة المرعبة لهم في المستقبل، فأي إيقاف حقيقي لإطلاق النار، يعني أن النار ستشتعل في حاضنتهم، لأن كفة الحياة ستميل لصالح الشمال المكلوم اليوم، وعندها سيبدأ موسم الهجرة إلى الشمال السوري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.