شعار قسم مدونات

مشاركة سخيفة في مؤتمر مهم

blogs خطاب

كان ذلك حدثا مفاجئا للصحفي الشاب الذي أرسلته الجامعة للتغطية الإعلامية، مؤتمر فكري حاشد، وحضور دبلوماسي رفيع في قاعة فندق خماسي النجوم. تدير الندوة الافتتاحية إعلامية بشوشة الوجه طليقة اللسان مليونية المتابعين على إنستاغرام. أدلى جميع الضيوف الرئيسيين بمداخلاتهم على المنصة، ثم فُتح باب مشاركة الحضور، وحددت المذيعة مدة المداخلة لكل شخص بدقيقة واحدة كحد أقصى.

  

انبرى للكلام رجلٌ رصين الهيئة، مفرط في أناقته، يرتدي بزة فضية لامعة وربطة عنق بنفسجية. تحدّث بنبرة هادئة تملؤها الثقة: مرحباً، أنا الدكتور أحمد عبد الحليم الأحمد، دكتوراه في القانون الدولي، وخبير في السياسات الشرق أوسطية، ومداخلتي هي- وقال حرفياً: بْلا بْلا بْلا بْلا بْلا بْلا.. ثم أكمل يقول " بْلا بْلا بْلا بْلا.." والحاضرون جميعاً في ذهول!

 

همّت مديرة الحوار لتقاطع حديثه منذ الثواني الأولى:" لو سمحت أرجو أن…" لكنه أشار لها بكفه بأدب وحزم: أرجوك سيدتي، دعيني أكمل دقيقتي.." وابتسم، ثم راح يكمل عباراته الببغائية دون ملل: بْلا بْلا بْلا بْلا.. إلى أن انتهى الدكتور من مداخلته بعبارة: "وشكراً لكم" ثم قعد على كرسيه ليصغي وكأنه لم يتفوه بأي حرف.

 

ورغم صدمة الحاضرين وتمتماتهم وهمهماتهم، إلا أن أحداً لم يعقّب على تفاهة ما أدلى به هذا المتحدث الغريب. ارتبكت مديرة الندوة، وترددت فيما تعلق، لكن أحدهم قفز رافعاً يده للمشاركة ولحقه آخر يطلب الإذن.. وعادت الأمور إلى نصابها مع المشاركة التالية، وأخذ الواقفون يتسابقون للتحدث، والحصول على الميكروفون، قبل أن ينقضي وقت الندوة وترحل عدسات الكاميرات وتطفأ الإضاءة وتهدأ مكبرات الصوت، وهكذا كان، فالجلسة انتهت من حيث بدأت، والتقطت الصور التذكارية الجماعية والفردية والسيلفية، وولى الجمعُ تاركين زجاجات مياه فارغة وقصاصات ورق مبعثرة، ومزيجاً من روائح العطور الفاخرة التي تعبق بالمكان.

 

قضيتُ سنواتٍ من عمري أُعدّ لكل كلمة سألقيها، كنت أدرس عنوان الندوات جيداً، وأقرأ وأطالع حول موضوعها، أختار عباراتي بعناية وفي اليوم التالي أجدني ألقي كلاماً كالهباء، دون أن يناقشني أحد! وأحظى بتصفيفتين أو ثلاث

وحده خالد بقي مسمّراً في مكانه في زاوية القاعة ينتظر إجابةً على سؤال رآه بديهياً. وهو صحفي شاب أرسلته جامعته لتغطية الحدث كجزء من التدريب العملي قبل التخرج. منذ مشاركة الدكتور أحمد صاحب (البلا بلا..) أبقى خالد عينيه على الرجل. ثم لحق به مع انقضاء الندوة يراقبه، وحين اقترب الدكتور من بوابة الفندق، ركض تجاهه، مناديا إياه باسمه: دكتور عبد الحليم! التفت نحوه أحمد، وابتسم رافعا حاجبيه، ومد يده يصافحه.

 

وللوهلة الأولى شعر الصحافي بأنه يصافح رئيس الوزراء، وكاد يكتفي بهذه التحية والحفاوة التي أغدقها عليه الرجل، لولا أن فضوله غلب خجله:

-اعذر تطفلي دكتور.. ولكن لماذا قلت في مداخلتك كلاماً غير مفهوم؟

-ما هو غير المفهوم في كلامي؟! أجابه باستنكار ونبرة هادئة.

–    عندما قلت "بلا بلا بلا بلا…"

–    وهل كنت تنوي أن تفهم كل ما أقوله؟

–    طبعاً، وإلا لماذا تتحدث؟!

  

ابتسم الدكتور أحمد، واستأذن الصحفي، وأشعل سيجارة سحب منها نفساً عميقا، وراح يكمل حديثه:

-يا صديقي، أنا أحب توفير الجهد، لنفسي أولاً وللناس من حولي. فأنا هنا في هذا المؤتمر وفي هذه الندوة تحديداً، أشارك لأعرّف الناس باسمي وصفتي، ولأسجل مشاركتي، ثم أنصرف. ولا يهم هنا ما أقول في متن كلامي، الأهمّ كيف أقوله، لذا أُركّز جهودي على الأسلوب والمظهر ونبرة الصوت، وأعفي المستمعين حولي من اجترار أي ترّهات أو حشوٍ لا يزيد ولا يُسمن. وهذا أسلوب عمليّ أتبعه بشكل دائم.

 

ثم أسهب الدكتور في حديثه:

-قضيتُ سنواتٍ من عمري أُعدّ لكل كلمة سألقيها، كنت أدرس عنوان الندوات جيداً، وأقرأ وأطالع حول موضوعها، أختار عباراتي بعناية وأنتقي المفردات وأدرب نفسي على تلاوة المداخلة، وفي اليوم التالي أجدني ألقي كلاماً كالهباء، دون أن يناقشني أحد! وأحظى بتصفيفتين أو ثلاث، بينما يرتجل صديق لي كلمتَه- وقد جاء الندوة صدفةً- فيحظى بالثناء والتعقيب والتصفيق، رغم أنه لم يحكِ إلا عن نفسه، فصِرتُ أفكر في كل كلمة أقولها، وأجدُ مضمون كلامي عديم التأثير. إذا ما هنأتَ صديقاً في زفافه أو عزيتَ قريباً في وفاة، أو اعتذرتَ أو تقربتَ أو حييت: لا يصغي الناس لقولك، بل يذكرون هيأتك ولهفتك ونبرة صوتك… ومنذ ذلك الوقت صرت أولي اهتمامي بالأسلوب وصارت حياتي أسهل مع الجميع.

 

غمز الدكتور صديقه الطالب، وانصرف يكمل علاقاته العامة ويحيّي من وقعت عليه عيناه. وغادر الصحفي مذهولاً من الموقف كما الإجابة التي سمعها، ولم يعرف إذا كان كلام الدكتور قد أقنعه أم لا، لكن خالد ومع وصوله البيت، شغّل حاسوبه، وفتح صفحته على فيسبوك، ونشر صورة التقطها لنفسه في الندوة، وكتب فوقها الآتي:

"أصدقائي جميعاً، مساؤكم معطر بالورد..

اليوم أقول لكم بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا.."

وملأ خمسة أسطر منها، وذيّلها بعبارة:

"أخوكم الصحفي خالد"

  

وما هي إلا لحيظات حتى انهالت عليه التعليقات:

  

–    مساؤك ياسمين أخي خالد

–    منوّر يا أحلى صحافة

–    صدقت والله، نفع الله بكم

–    كلامك درر، دمت متألقاً

 

ووسط كل هذه التعليقات، وجد تعليقا باسم "الدكتور أحمد عبد الحليم"، كتب فيه: "تشرفتُ بلقائك اليوم يا صديقي، آمل أن تكون قد اقتنعت بكلامي"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.