شعار قسم مدونات

قوة تركيا الناعمة.. كيف تغيرت قبل وبعد الربيع العربي؟

BLOGS تركيا

هذا المقال سيبرزُ معالمَ القوة النّاعمة بشكل عام كما يشرحها علماء السياسية، وفي ضوء ذلك؛ يدرس التجربة التركية في هذا السياق، مع رصد قوة تركيا الناعمة قبل وبعد الربيع العربي، لأن هناك جدل بما حلّ في صورة تركيا بسبب بعض مواقفها. يُعتبر مصطلح "القوة الناعمة" من المفاهيم الحديثة، والمنسوبة لليبرالية، لكن هذا لا يعني أن مرادفات هذا المصطلح لم تحتويها نظريات أخرى، وكذلك فإن تطبيقاته العملية والسياسية يمكن ملاحظتها في مراحل تاريخية مختلفة. يُعتبر جوزيف ناي هو من نحت مفهوم "القوة الناعمة" عام 1990 في كتابه "مُلزمون بالقيادة"، وتوّج ذلك بتأليف كتاب بهذا العنوان، ولكن هذا لا يعني أن مفكرين سابقين لم يشيروا إلى أهمية القوة الناعمة ودورها في العلاقات الدولية.

مورجنتاو الذي يُلقّبُ "أبو الواقعية"؛ ذكر في كتابه "السياسة بين الأمم" أهمية الدبلوماسية في تعزيز قوة الدولة، وعرّج على السياسة الخارجية في كلامه عن نوعية الحكم، وكل هذه الأمور على تماسٍ مباشر مع ما يُعرف بالقوة الناعمة. أمّا التاريخ ففيه أمثلة متعددة، فجاذبية العقيدة الإسلامية إبّان ظهورها، ودورها في التوسّع الإسلامي، مع ما قدّمه التجار المسلمون من صورة جلبت الآخرين إليهم. فالمُصطلح لناي وقام بتفصيله وتأصيله، أما ما يندرجُ تحتها فهو قد سبق نظريا وعمليّا.

تعريفُ القوة بشكل عام عند جوزيف ناي (القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي يتوّخاها المرء)، فأما القوة الناعمة فإنك تحقق ما تُريد ولكن بدون تهديد، ولا تقديم أموال، بل عبر جذب الآخرين لخياراتك، واقتناعهم بها، والعمل من أجلها. ويرى ناي بأنّ القوة الناعمة ومواردها تندرج تحت عناوين ثلاثة: ثقافة تقدّمها الشعوب وممثلوها وتجذب الآخرين إليها، وقيم سياسية مطبقة داخلياً وخارجياً، وسياسات خارجية تنطلق من شرعية وبعد أخلاقي.

من الأمور التي تدعم القوة الناعمة التركية المنح الدراسية التي تقدّم لطلاب من الخارج، وكذلك المهاجرين الذين عاشوا في تركيا. بالنسبة للمهاجرين وعلى رأسهم السوريين، فإن المعاملة الحسنة التي تلقاها المُهجّرون السوريون مقارنة مع غيرهم من دول الجوار

هناك تطوّرات وتغيّرات شهدها عصرنا الحديث، وساهمت في زيادة الحاجة للقوة الناعمة. ثورة المعلومات، والنمو الهائل في وسائل التواصل، وزيادة تأثير الإعلام بشتى أنواعه. ظهورُ قيودٍ واقعية على استعمال أسلحة الدمار، وزيادة تكلفة الحروب والاحتلال ممّا ساهم في تقليل الخيارات العسكرية للدول. تنامي دور الرأي العام في الديمقراطيات جعل القادة يحسبون بدقة خياراتهم نحو الحرب. انتشار القوة وصعوبة السيطرة عليها، مع إمكانية وصولها لغير الدول يدفع السياسيين لابتكار وسائل جديدة في مواجهة ذلك.

تركيا عبر نهضتها، والتغييرات التي أحدثتها بعد عام 2002 في مجالات شتى؛ رَفعت أسهمها في مجال القوة الناعمة. تأثيرُ القوة الناعمة التركية تركّز في المحيط الإقليمي لتركيا، مثل دول البلقان، ودول الشرق الأوسط وفي قلبها الدول العربية، بالإضافة للدول الإسلامية، وساعد في ذلك ما تشهده كثير من هذه المناطق من صراعات، وتخلف، وغياب الثقة بين القادة والشعوب. تركيا مثلّت نموذجاً اقتصادياً ناهضاً تطلعت إليه الشعوب، واعتبرته نموذجاً تبتغيه. ما نذكره هنا ليس المال الذي تدفعه تركيا، بل الصورة التي كونتها عند كثير من الناس. وحتى تَمدّ تركيا صِلاتها بالمنطقة وتتواصل معهم اقتصادياً، فقد بنت استراتيجية أطلقت عليها "صفر مشاكل"، وكان مهندسها أحمد داوود أوغلو. عبر تلك الاستراتيجية استطاعت تركيا أن تتواصل مع إقليمها ومع كثير من دول المنطقة.

ومع الوقت انتشرت البضائع والماركات التركية في الدول العربية، ودول إفريقيا، وغيرها من الدول، وصارت تمثّل في الذهن صورة الجودة والقبول. وعبر التسهيلات التي قدمت تركيا للمستثمرين، والتجار الذين قصدوا السوق التركي، وبدورهم عادوا بصورة صارت نموذجاً يُحكى ويُنشد، وأدى لجذبهم إليه، وهذا عين القوة الناعمة. الدبلوماسية التركية والسياسة الخارجية لها، وعبر تبنّيها لكثير من القضايا التي تهم الشعوب العربية والإسلامية، ورفع هذا من نصيبها في القوة الناعمة. التصريحات التركية، وبعض المواقف التي ساندت القضية الفلسطينية بما لها من مكانه في وجدان الشعوب، وكذلك تبنيها لقضايا المستضعفين في ميانمار، وكشمير، وتقديم المساعدات والمعونات من المؤسسات الحكومية التركية، ومؤسسات المجتمع المدني في كثير من الأماكن.

ظهور أردوغان كمنافح عن قضايا المظلومين، وما يهم الشعوب العربية والإسلامية، كل هذا جذب الكثير للنموذج التركي ، والأرقام تشير إلى ذلك: ففي عام 2002 في استطلاع للرأي أُجري في بعض الدول العربية حلّت تركيا كأسوأ دولة بعد أمريكا وإسرائيل، أما في عام 2011، وفي استطلاع آخر جاءت تركيا في المركز الأول كدولة حازت على أفكار إيجابية وبنسبة70في المائة في أذهان دول عربية وإيران.

من الأمور التي تدعم القوة الناعمة التركية المنح الدراسية التي تقدّم لطلاب من الخارج، وكذلك المهاجرين الذين عاشوا في تركيا. بالنسبة للمهاجرين وعلى رأسهم السوريين، فإن المعاملة الحسنة التي تلقاها المُهجّرون السوريون مقارنة مع غيرهم من دول الجوار، وهذا يُشكّل عامل جذب وإعجاب. حسب المسؤولين الأتراك، فقد دخلت أربع جامعات تركية التصنيف العالمي ضمن 200 جامعة. وقد أنفقت تركيا على المنح الطلابية عام 2014 ستة وتسعين مليون دولار، وفي عام 2015 بلغ عدد الطلاب الأجانب في الجامعات التركية ما يُقارب 88 أف طالب. والطلاب الذين يأتون لتركيا بالطبع سيعودون لبلدانهم بالصورة والجاذبية التي بنوها عن تركيا، والتي تؤثر في فكرهم وسلوكهم.

الدراما التركية، وبمواضيع مختلفة مثلّت رافداً مهماً في القوة الناعمة التركية. كثير من القضايا الاجتماعية التي طرحتها المسلسلات التركية مثلت نسقاً تبناه البعض من شعوب المنطقة. الأعمال الدرامية التاريخية، التي تبنّت قضايا الأمة، وأبرزت صورة مشرقة للحاضر التركي، والتاريخ العثماني، فكان لها دور كبير في تعزيز مكانة الأتراك. فمسلسل واد الذئاب أو آرطغرل يمكنك بسهولة رصد المشاهدات التي نالتها هذه الأعمال على يوتيوب، وغيرها من المنصات، وصار بعض العرب مثلا يحاكون هذه النماذج، ويشترون بعض لباسهم، ويقلّدون بعض هيئاتهم، وهذا جذب دون إكراه ويعني قوة ناعمة إضافية.

أما على الصعيد المجتمع المدني، فإن الشعب التركي قدّم نموذجاً يُعجب كثيراً من شعوب المنطقة. زادت معرفة الناس بالشعب التركي وعاداته عبر إبراز التاريخ التركي وتشجيع السياحة هناك، ومنح التسهيلات لذلك، وغدت تركيا من البقاع السياحية المهمة. ما فعله الشعب التركي عام 2016 بما ضربه من نموذج مثّل الوعي الديمقراطي، وذلك بإسقاطه المحاولة الانقلابية، واللافت أن أحزاب المعارضة قد وقفت ضد الانقلاب، وهذا يدفع الكثيرين للسؤال عن الوعي الذي أوصلهم لذلك.

هناك جدل دائر حول القوة الناعمة التركية وما حلّ بها بعد الربيع العربي، لأن مواقف تركيا وسياساتها تعارضت بشكل ما مع رؤية الأنظمة الاستبدادية العربية. وقد يرى البعض أن صورةً تُرسم عن تركيا بأنها طامحة لإعادة أمجاد العثمانيين، وإظهارها كقوة توسّعية وطامعة. قد تكون هذه الدعاية قد أثرت على البعضلا سيّما أنصار الديكتاتوريات العربية، ولكن في المقابل؛ ترسخت صورة لتركيا في أذهان قسم من الشعوب العربية ترى في تركيا نصيرا لتطلّعات الشعوب في الحريّة والديمقراطية، وصارت محسوبة على أنصار الثورات العربية في وجه الثورات المضادة. استضافةُ تركيا لكثير من الهاربين من أنظمة القمع في بلادهم تعزز صورة تركيا الآنفة الذكر.

ورغم حملات التشويه ضد تركيا، فعلى سبيل المثال عدد السيّاح الإماراتيين الذين زاروا تركيا عام 2018 ما يُقارب 43 ألف سائح، وهذا حسب ديلي صباح التركية. السعودية مارست حملة ذُبابية لتشويه السياحة التركية، وإذا سلمنا بالأرقام التي أوردها موقع العربية، فإن عدد السياح السعوديين لعام 2019 قد تراجع بنسبة الثلث، أما الثلثان الآخران فقد ظلت وجهتهم تركيا. تشي الأرقام السابقة، والتي تخصّ دولتين لهما خصومة جلية مع تركيا، بأن تركيا ما زالت تحتفظ برصيد كبير من القوة الناعمة، رغم بعض التراجع.

بعد الربيع العربي، وتدريجياً، فإن تركيا اتجهت نحو استراتيجية القوة الذكية، وهي عملية دمجٍ دقيقة بين القوة الناعمة، والقوة الصلبة، لذا فإن تركيا أمام امتحان خطر؛ تحتاج أن تُوفّق فيه بين ما تُعلنه، وما تستطيع فِعلَه واقعاً، وممّا يُعقّد توجّهها هذا؛ تَزاحمُ المنطقة بِلاعبين إقليميين طامحين، وآخرين دوليين كبار، ولهم أجندتهم الخاصة بهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.