شعار قسم مدونات

كلّنا بخير لولا الآخرون!

BLOGS تفكير

هو كتب كنّا بخير لولا الآخرون.. كتبها على جدار بأحد مستشفيات الأمراض النفسية في مكان ما من هذا العالم.. كان يعي جيّدا ما كتبه ولم ينطقه، كان يدرك أنّه يعاني ومع ذلك يفهم معنى معاناته وشدّتها ونوعها، معاناة لا تصنّف ضمن الأمراض العصابية ولا الذهانية. هي ليست من الأمراض التي تتسبب فيها مادة مخدرة؛ بقدر ما هي من الأمراض التي يتسبب فيها فيروس فتّاك يدعى الآخر ينتمي إلى فصيلة الناس. نعم، كانوا بخير لولا الناس!

كان عليه أن يكتب كنّا بخير لولا الأقارب، لكنّه كتب الآخرين. لم يحدّد من هم "الآخرون"، كان عاقلا حتى وهو يكتب عن سبب علّته، وحدهم أولئك الذين هم مثلي يدّعون العقل ويرتدون مآزر بيضاء ويستقبلون أشخاصا يطلق عليهم لقب مرضى في غرفة مغلقة؛ ليصفوا حالاتهم في ملفات، ويدوّنوا مهدئاتهم في وصفات؛ يرمونهم بتهمة الجنون خفية ويخفّفونها أمامهم بكلمة تعب، ثمّ يرصفونهم في دولاب مصحّة كما ترصف اللعب، دون محاولة منهم لإزالة السبب.

جلّ الذين لم يعودوا من الجنون لم يتحمّلوا طاقة عدم القدرة على الغفران التي تجذبهم. جلّ الذين لم يعودوا من الجنون لم يستطيعوا العودة من جرح قديم، جلّ الذين لم يعودوا من الجنون لم يستطيعوا مقاومة الحبّ ولم يتعلّموا السباحة في فضائه، لقد كانوا يرمون بأنفسهم دفعة واحدة دون أن يفهموا قوانين الجاذبيّة. جلّ الذين لم يعودوا من الجنون لم يتخلّصوا من الصدمات ولم تغادر قلوبهم الكدمات. لو أنّنا رفعنا تقريرا إلى المحكمة بدل وصفة إلى الصيدلي لكان الكلّ بخير، لو أنّنا اعتقلنا الآخرين بدل اعتقال المرضى في سجون الأمراض العقلية لخفّفنا جرائم التعدّي على النفوس، نعم هي سجون، نرغمهم فيها على الحقن والأقراص ونتحكم في أذواقهم ونفرض عليهم أطباقا معينة وربما لباسا معيّنا.

كلّ حرّاس المرمى الذين عرفتهم هم خرّيجو العذاب لكنّهم في كل طور من أطواره كانوا يتقنون فنّ التصدي ويدفعون عنهم التحدّي، لهذا هم على عكس المهاجمين نادرون وقلّما يسطع نجم أحدهم، لتصنع حارس مرمى قويا أنت بحاجة لحياة صعبة وأوقات عسيرة وملاكم

نرصفهم في أسرّة ونحكم عليهم في قفص وقبل هذا نرسل إلى أحيائهم سيّارة مدويّة تدّعي الإسعاف تتولّى القبض عليهم ونكبّلهم كما لم يكبّل يوما مجرم حرب. البعض يقاوم لأنّه دفع ثمن الحريّة غاليا، ابتاعها بعقل باهظ، والبعض يستسلم فلا يناهض، يمتثل أمامك بهدوء كما لم يفعل مجرم في محكمة، يستقبل جميع التهم بصدر رحب، يمرّ أمامه شريط الأحباب والصحب، يبحث في عينيك عن أقراص النسيان ومشروب الأمان، يلتمس من قلمك ترخيصا يجعله يقتني مخدرات شرعية لا تجعله يحسّ بالذنب، تمشي معه على مدى العمر جنبا لجنب. ومساء يتكوّر وسط سريره بصمت كما الجنين في بطن أمه ينصت بحزن لزميله في الغرفة المجاورة يغنّي "همّي همّي جاني من دمّي (أقربائي) ما نظلمشِ الناس، عييت (تعبت) ما نخبّي وتعمّر قلبي وأنايا (أنا) قلبي حسّاس". كأنّ دمّي في هذه الأغنية لا تعني إلّا الآخرين والناس قضية أخرى!

هو ليس بخير كونه لم يكن يوما مذنبا، كان يتفنّن في الكتمان وكان يتعمّد الخسارة في مباراة العلاقات حتى لا يكسر الخواطر، كان يكسّر نفسه حتى فتّتها كي لا يضطّر يوما لجبر النفوس. لم يكن يصدّ الكرات التي كانت تهاجم مرماه بشراسة حتى تقطّعت شباكه؛ هذه التي نحاول ترميمها اليوم في قفص. كلّ حراس المرمى الذين عرفتهم في حياتي كانوا مقاتلين، يرتدون القفاز في الحلبة قبل الملعب كأنّهم أدركوا أنّ اللعب ضرب من ضروب القتال فلم يأتمنوا شيئا على أنفسهم، لم يصدّقوا يوما أنّهم يفنون عمرا لأجل لعبة، لم يشاهدوا كرات الهجوم القادمة نحوهم بتلك القوة إلّا ضربة من ضربات الحياة، لقد كانوا يدخلون الملعب بروح محاربين!

كلّ حرّاس المرمى الذين عرفتهم هم خرّيجو العذاب لكنّهم في كل طور من أطواره كانوا يتقنون فنّ التصدي ويدفعون عنهم التحدّي، لهذا هم على عكس المهاجمين نادرون وقلّما يسطع نجم أحدهم، لتصنع حارس مرمى قويا أنت بحاجة لحياة صعبة وأوقات عسيرة وملاكم، حتى أطباء النفس في فترات من أعمارهم كانوا بحاجة لأن يحتموا تحت جناح حارس مرمى! لو أنّ هذا الذي ندعوه مريضا احتفظ في أحد زوايا نفسه بحارس مرمى، لما رضخ لعقّار، لو أنّه فعل لما افترش رأسَه نقّار. النفوس ليست بحاجة لدواء يهدّئها بقدر ما هي بحاجة إلى حارس مرمى يردّ الأذى عنها، النفوس ليست بحاجة إلى طبيب يداويها بقدر ما هي بحاجة إلى فارس يحميها. كان عليه أن يكتب كنا بخير لولا الأقارب ولولا الأحبّة، لكنه ظلّ محترما متحفّظا وتسامى حين فصلهم عن نفسه فسمّاهم عقب خذلان رهيب الآخرين بعد أن كانوا الأقربين، فالنفس لا تتأذّى إلّا من قريب ولا تنكسر إلّا من حبيب وصعب أن يطبّبها طبيب.

كلنا بخير لولا الآخرون.. فالآخرون طريق من طرقات الجنون، حتى أولئك الذين تربطنا بهم جينات ولو عاشوا قبلنا بقرون، كلنا بخير لولا الآخرون..
– فلانة كانت لتكون بخير لولا أبوها، نكتب في ملفها الطبي حالة فصام، نصف لها رضّاعة من أدوية، ننصحها بالراحة وكلّنا على يقين أنها لن ترتاح، نخبرها أنه مجرّد وسواس حتى لا تضطرب أكثر، ثمّ نودّعها. تعود مساء إلى البيت، ينهال عليها بالشتائم، يسجنها في غرفة لا تخرج منها إلّا للحمّام أو لطبيب نفسي يجدّد لها وصفة الأدوية ويعيد ترتيل صحفه عليها. لقد كانت لتكون بخير لولا طقوس التعذيب هذه!
-توشك فلانة على أن تبلغ الخمسين من العمر، تجلس وحيدة في بيت كبير، انصرف جميع قاطنيه إلى الغرف عداها هي، لا زالت تسرد للموقد شتاء قصة العزوبة وكيف أنها كانت لتكون أمّا لسبعة أطفال على الأقل لو لم تطرد أمّها -رحمها الله- جميع خاطبيها لتمسي بعد عمر طويل ضيفة في بيتها، تتناول أقراص الحسرة صباحا وأقراص الطبيب مساء عساها ترمّم وجهها الحائر. كانت لتكون بخير لولا قرار أمّها الجائر!

-لم يكن يصدّق أنّ السحر موجود رغم أنه مؤكد بالقرآن والسنّة حتى أصيب به، فصار يُحمَل من مكان لآخر كالرّفاة، ثمّ تناوب عليه الرّقاة. ذنبه الوحيد أنّه تميّز ثم وثق! بعد سنوات نشروا صوره على الفيسبوك، إحداها بدت منبوشة مع أشياء غريبة من مقبرة. كان يبدو في الصورة الأولى مثل نجم من نجوم السينما وفي الصورة الثانية ظهر مثل مومياء.. كان ليكون بخير لولا الحسد!
-تجمّع حشد من سكان الحيّ حول جثّته قبل أن تلتحق بالمكان سيّارة الإسعاف ترافقها الشرطة ورجال الإطفاء.. كتبوا تقريرا عن حالة انتحار وأغلقوا القضيّة. دفنه حفّار القبور وشيخ من شيوخ الحيّ لطالما كان شاهدا على أخلاقه العالية، قال إنّه كان رجلا يجيد الصمت، لا يعلو صوته أبدا. حدّثهم عنه مرارا وتكرارا لكنّهم لم يفتحوا تحقيقا حول حالة الصمت تلك التي كان يعاني منها واكتفوا بالصمت؛ عدا في شأن مصيره فقد تحدّثوا كثيرا عن جهنّم التي تنتظره!

-كان ليكون بخير لولا تفجير إرهابي سجّل في ملفه الطبي حالة صدمة.
-كان ليكون بخير لولا تعرضّه للضرب المبرح على رأسه.
-كان ليكون بخير لو لم يفتروا عليه الكذب.
-كان ليكون بخير لو لم يثق.
-كان ليكون بخير لو لم يتعلّق.
-لم يكن ليصاب بالحول لولا الصفعات التي تلقّاها من الآخرين في طفولته.
-لم يكن ليجنّ لو لم يذكّره الآخرون يوميا بعيب خلقي فيه.
-لم يكن ليهاجر بصورة غير شرعية لولا الفاقة.
-لم يكن ليَعق لو لم يُعقّ.
-لم يكن ليسرق لو لم يجوّع.
-لم يكن ليتمرّد لو لم يتعذّب.
-لم يكن ليروّج المخدرات لو لم يروّجوه للفقر.
-لم يكن ليُسجن لو لم يُطرد من المدرسة.
-لكنّه أيضا لم يكن ليجنّ لو لم يتمادَ في ظلم الآخرين!

كلّهم كانوا بخير لولا الآخرون.. كلّهم كانوا بخير لولا الخيانة والحسد ولولا الثقة ولولا الظلم.
أعلم أنّ "لو" تفتح عمل الشيطان وأن ما حدث كان قدرا، لكن أرجوكم لمرة واحدة على الأقل لا تبرّروا أخطاء البشر وذنوبهم بالقدر.. فالله لم يأمر مخلوقا بالظلم.. أرجوكم، يكفي إلى هذا الحدّ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.