شعار قسم مدونات

هل كان محمود درويش أهم شاعر فلسطيني؟!

blogs - محمود درويش

أعلم أن هذه التدوينة ستجد الكثير من الخصومة والانتقاد، ولكنه رأي حاك في صدري كثيراً قبل إطلاقه. فالكلام عن الرموز منبوذ.. وسيجد له أعداء قبل قراءته وسيجد من يرفض مناقشة الفكرة من أساسها، لا شك أن محمود درويش هو أحد أعلى قامات الثقافة الفلسطينية، وهو ما زال بعد رحيله باثني عشر عاماً رمزاً من رموز الثقافة الفلسطينية وبالتأكيد سيبقى كذلك في مستقبل الثقافة الفلسطينية، ومن نافل القول الحديث عن شاعرية محمود درويش، غير أن قراءة متأنية في تشكّل الصورة يمكن من خلالها وضع النقاط على حروف هذه النجومية، من السذاجة القول إن المصدر الوحيد لنجومية أي شخص هو صفاته الذاتية أو المميزات الفنية لشعره. كذلك فإن حصر الأمر بالعوامل الموضوعية المساعدة فقط، هو أكثر سذاجة.

   

نجومية الثقافة تحتاج إلى الإعلام، لكن مقتلها في الإعلان، فـ"تسليع الثقافة" يهبط بها إلى مستوى "نجوم" الفن في هذه الأيام. والفرق هنا بين الإعلام والإعلان، أن الإعلام [الصادق] في مراحله المتوسطة يواكب الحدث ويروّج له بالنقل الموضوعي. أما الإعلان فهو يصنع للمُنتَج وجهاً غير الذي هو عليه، أو يصعد بالمنتجات الرديئة إلى مصاف "نجوم الفن". من هنا نرى أن محمود درويش كان موجوداً دائماً تحت عين الإعلام، وحيثما كان الاهتمام بالحدث الفلسطيني وفي المكان الذي أمكن تجميع أكبر قدر من الإعلام المؤيد للقضية الفلسطينية من مصر إلى لبنان إلى تونس إلى رام الله، كان درويش موجوداً بموهبة فذّة وشاعرية نادرة وقدرة مميّزة على النظم وغزارة في الإنتاج، سببه التفرغ شبه الكامل للشعر، ضمن معادلة إنتاجية واضحة "المزيد من الوقت يعني المزيد من الإنتاج (الشعر)".

 

التشابه مع المتنبي

يبالغ كثيرون في اعتبار أن الثقافة العربية لم تنجب منذ المتنبي مثل درويش، متجاوزين آخر عمالقة العصور العباسية (المعرّي)، وأول عمالقة عصر النهضة (شوقي)، لطالما شغلني موضوع تشكّل صورة القيادي والنجم، وكان المتنبي أحد الذين كنت أضعهم في اعتباري دائماً عند الكتابة عن صورة الشاعر، حيث كان المتنبي يهتمّ جداً في إيصال الصورة الحسنة عن شعره، وفي النقاط التالية سنجد غرابة التشابه في بناء نجومية المتنبي ودرويش:

  

أولاً: الكاريزما التي تبحث عن فترة بناء الشخصية دائماً، وتبحث في بدايات الشخص المقصود. شخصية الثائر المظلوم المنبوذ (لقب المتنبي جاء من بيت شعر شبّه نفسه بـ"صالح في ثمود" منبوذاً رغم أنه نبي). أما درويش فكان الفقير المكافح المنبوذ في ظل الاحتلال "طردوه من كل المرافئْ. أخذوا حبيبته الصغيرة، ثم قالوا: أنت لاجئْ" فحقق حريته بالخروج من فلسطين!

 

ثانياً: الوجود في مكان الحدث، وهذا ما فعله المتنبي، في بلاط سيف الدولة، قريباً من السياسيين المحبوبين، غير مخالف لهم مهما كانت ملاحظاته عليهم. وهذا هو ما نقل محمود درويش، من الداخل إلى مصر فلبنان فتونس فباريس فرام الله. وهذا ما يستدعي التفصيل في (ثالثاً).

    undefined

  

ثالثاً: الوجود في مناطق السخونة (الحروب والكفاح) وبقع الضوء (الإعلام والثقافة والنجومية)، ولعل أكثر ما يشبه هذه الفكرة هو القنديل المضيء بالنار، يتميّز بالسخونة والضوء، ووجود الفراشات قربه يثير الانتباه إليها. إلا أن هذه الفراشات نوعان: فراشة تقترب أكثر مما يجب فتحترق (كأبي فراس الحمداني الذي قاتل وأُسر)، وكراشد حسين (قُتل في نيويورك) وكمال ناصر وغسان كنفاني (اغتيلا في بيروت). وفراشة تعرف كيف تستفيد من الضوء والحرارة بعيداً عن اللهب (كالمتنبي ودرويش).

 

رابعاً: ولكن كيف استفاد هؤلاء من الحرارة والضوء بعيداً عن اللهب؟ ببساطة: تبنوا مشروع المقاومة والقتال ضد الأعداء. وكان هذا التبنّي هو خلاصة وسائل النجومية وذروتها، حيث أنها تجبّ مساوئ قادتها وروّادها، وهذا هو الحال الذي كانت عليه الدولة الحمدانية (التي لقيت تأييداً نادراً في العالم الإسلامي رغم أنها كانت دولة شيعية في بحر من الدويلات السنية). وهذا الحال هو الذي كانت عليه الثورة الفلسطينية في السبعينيات. وهذا ما حققه الشاعران النجمان حيث تكرّس الأول شاعر الدولة الحمدانية الأول، والثاني شاعر الثورة والقضية الأول،

 

لا أقول هنا إن الابتعاد عن اللهب يعني الابتعاد عن القتال، بقدر ما يعني ترك مسافة بينهم وبين المسؤول السياسي، ما ذكرناه، هو ما يتعلق بالعوامل المساعِدة لموهبته وشاعريته. أما النقاط التي تتعلق بشكل شعره ومضامينه، فلها تأثير كبير، يدلّ على أن نظرية "الفراشة التي لا تحترق" قائمة أيضاً في الجوانب الإبداعية في شهرته.

 

خامساً: كان المتنبي يلقي الدروس النقدية في بعض مساجد الأمصار عن شعره الذي كان يحمله في مجموعة قراطيس فيها عدة نسخ من دواوينه، لم يكن يتردد في تنقيحها دائماً، ما يعني أن النسخة التي كان يحملها هو معه هي النسخة الأصلية والشرعية والمنقّحة والمعتمدة. وكان يمكنه التعديل عليها ساعة يشاء، في حين أن درويش خرجت منه صلاحية تعديل ما في أيدي الناس من الدواوين المطبوعة، فتبرّأ من نصف شعره، حين قال: "لو قدّر لي أن أراجع شعري لتبرّأت من نصفه". فقد اهتم درويش بتطوير مضامين شعره بشكل بات مع كل تطوّر يشعر بأن ما كتبه في الماضي متخلف عن مستواه الفني الحالي.

 

حقق درويش في مبيعاته أكثر من مليون كتاب وترجمت قصائده إلى 22 لغة، ونقل طباعة ديوانه من دار العودة في بيروت إلى دار رياض نجيب الريّس

فضلاً عن أن درويش كان يجتهد من أجل تطوير شعره ويحرص على أن يتساوق مع تطوّر ثقافته التي كانت سريعة التوسّع بفعل القراءة. وقد أخذ البعض على حرصه هذا بأنه كان مصطنعاً أحياناً (رغم مستواه العالي) حيث كان يلزم نفسه به إلزاماً. إذ لم يكن من الضروري أن يكتب درويش عن ملحمة جلجامش لأنه قرأ عنها (فضلاً عن سعيه ليصبح شاعر إنسانية وليس شاعر فلسطين وحدها، فقد ضاقت عليه فلسطين في مراحله الأخيرة.. مع أن هذه تسجّل له، حيث استطاع الخروج بالأدب الفلسطيني من ضيق القضية إلى فضاء التراجيديا الإنسانية كالإغريقية وغيرها). غير أن هذا التطوّر السريع، كان له علاقة -كما المتنبي في دروس المساجد- باتخاذ درويش من الشعر مهنة يخصص لها كل صباح عدة ساعات للكتابة، كأن الإلهام يأتي في أوقات معروفة وشيطان الشعر موظف يجلس على طاولتنا كل صباح.

 

سادساً: حمل المتنبي راية التجديد في معاني القصائد ومضامينها دون أن يخرج طبعاً عن الشكل والأوزان. وكذلك فعل درويش الذي حمل همّ التجديد، غير أنه بقي محافظاً على الوزن ولم يخرج عنه كثيراً.. وهنا نفرّق بين التجديد والحداثة التي حلّت كل ضوابط الشعر ومعاييره فقضت عليها ابنتها "ما بعد الحداثة"، محمود درويش أدرك أن التخلّي عن الوزن والتفعيلة بشكل أساسي والتخلي عن القافية بصورة أقل، سوف ينزع عن شعره الغنائية التي كانت أحد أهم أسباب نجاحه من خلال أغاني الفنان مارسيل خليفة (الذي خرج مثل درويش من دائرة القضية إلى الدائرة العالمية، التي يعمل لها بجدّ، ورفض -مثلما رفض درويش "سجل أنا عربي"- غناء بعض أشهر أغانيه الثورية في حفلات خصصها لـ"جدل" العود فقط). من "خبز أمّي" و"جواز السفر" و"ريتا" و"أحمد العربي" و"بيروت" و"تصبحون على وطن".

 

من أهم عناصر شهرة درويش هي الغنائية الفائضة في شعره، ولم تكن الغنائية ممكنة بهذا القدر دون التزام الأوزان.. فهو "الفراشة التي لم تحترق" بوهج الحداثة، ولكنه استفاد من ضوئها وحرارتها.. هذا الأمر، تنبّه له نزار قبّاني الذي لم يخرج عن الوزن والتفعيلة إلا نادراً، فكان الوحيد الذي تنافس مع درويش على النجومية التي وفّرتها لهما الغنائية الفائضة، وتميّز قباني بأغانيه التي أدّاها كبار الفنانين العرب (أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم) وما زال "نجوم اليوم" يتسابقون على ودّ الورثة لغناء قصائده، فيما كانت أغاني القصائد الدرويشية مقصورة على اليساريين.

 

وهذان الشاعران هما الوحيدان اللذان اعتاشا من مردود مبيعات كتبهما. حيث كان لقبّاني دار نشر مستقلّة لمجموعاته، فيما حقق درويش في مبيعاته أكثر من مليون كتاب وترجمت قصائده إلى 22 لغة، ونقل طباعة ديوانه من دار العودة في بيروت إلى دار رياض نجيب الريّس، لأن دار العودة عجزت عن دفع المبلغ الذي طلبه كحقوق على الجزء الثالث من المجموعة الكاملة، علماً بأنهم نشروا حوالى خمس عشرة طبعة من الجزأين السابقين للمجموعة.

 

الانقسام الداخلي

لم يكن الخلاف بين المعارضين والموالين على القيمة الإبداعية لدرويش.. فقد شهدت شبه إجماع بين المتحاورين، لكن الخلاف دار حول ثلاثة محاور:

1- الموقف الديني من درويش، الذي بناه البعض على موقف درويش من الدين نفسه.

2- الموقف السياسي الداخلي، حيث إنه هاجم الإسلاميين قبل وفاته في مناسبتين، يقولون إنه بثّ فيهما عليهم سموماً كثيرة. والمناسبتان هما: أحداث الانقسام في غزة وقضية كتاب "قول يا طير".

3- الموقف الوطني، الذي تجلى في زيارته لحيفا بتأشيرة إسرائيلية وإلقائه الشعر في أمسية أحدثت انقساماً كبيراً بين المثقفين العرب، من فلسطينيي الـ48 حتى أوسع الدوائر الثقافية العربية.

 

ويبقى السؤال.. هل تمّت أسطرة الشاعر محمود درويش وإدخاله في الرموز الوطنية الفلسطينية بناء على أهميته الشعرية أم الوطنية أم الإعلامية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.