شعار قسم مدونات

اكتئاب الشباب.. انتحار للمجتمعات العربية

blogs تفكير، تأمل

"مجتمعات فتيّة" هكذا تعرّف الكتب المدرسية والمجلات العلمية عن مجتمعاتنا العربية. برسوم بيانية وصور توضيحية، أذكرها منذ أن كنت تلميذة في كتاب الجغرافيا، حيث يصعد مؤشر الأعمار من 18 سنة حتى 25 سنة ليشكل غالبية السكان في بلداننا. وينخفض المؤشر عند العجّز والمسنين، وكنا نسعد عندما نرى المؤشر يتناقض عند المجتمعات الأوروبية ونضحك على كونهم مجتمعات عجوزة كهلة. كبرنا وأدركنا حقيقة مجتمعاتنا الفتيّة الشابة شكلاً والعجوزة فعلاً ونفساً، فنحن تماماً من يُطلق عليهم "الأحياء الميتون".

شبان وشابات يجابهون الحياة حاملين وحالمين بالمراكز والأفكار والابتكارات والكثير من الطاقة والعمل، ما يلبث أن يصتدم بواقع أشبه بكارثة بشرية أو كما أحب أن اطلق عليه اسم "آفة" تفوق خطورة البطالة والفقر. هو الاكتئاب، مرض فتاك ينخر بعصب مجتمعنا العربي قاضياً على شبابه وشاباته. ففي بلد مثل لبنان اليوم يشهد حرب نفسية لا مثيل لها تاريخياً، يقف الشاب حائراً فاقداً للأمل من كل شيء، فبعد أن ألغى القطاع العام الوظيفة الثابتة وصرفت أغلب المؤسسات الخاصة موظفيها. أغلقت في وجهه جميع الأبواب إلا باب السفارة التي هرول اليها مسرعاً طالباً تأشيرة "للحياة" نعم ليست هجرة ولا لجوء إنها فرصة للحياة بالنسبة له.

أصبحنا كالدمى تمارس عليها تجارب نفسيّة أوصلت البعض حد الانتحار، وتشعبت مشاكلنا فأصبحنا آلات لا نشعر ولا نرى، نعيش كل يوم بيومه، وننتظر الأسوء، حروب إقليمية على أرضنا لا ذنب لنا بها ولا يد

حروب نفسية باتت أخطر اليوم من الحروب الدمويّة كونها تقتل الأحلام وتهدم الإنسان، تحارب أمله وإيمانه، لتلغي عزيمته وتدفعه للانتحار، إنها حروب العصر الحديث، حروب تغسل الأدمغة، وتسمم النفسيّة. يعمل الكثير من خريجيّ الجامعات اليوم في لبنان بمجال التعليم التعاقدي البعيد عن الانسانيّة، فلا ضمان صحي، ولا مرتب ثابت، ولا تعويض، وصيف طويل دون مدخول، ناهيك عن الإجازات غير المدفوعة. فالمهندس، والإعلاميّ، خريجي علم النفس، والاجتماع، والمختبر، الجميع يجتمع ويعمل في مدرسة لأنه القطاع الوحيد الناشط.

مواهب مقتولة، وأدمغة مهاجرة، وطاقات ضائعة، هذا حالنا جميعاً. ثم يرضخ الشاب بعض صراع خانق مع نفسه بأقل الشروط من أجل العمل. وسعيد الحظ من تشفق عليه سفارة وتعطيه فرصة للنجاة في بلاد الله الواسعة. وجوهٌ كالحة، ابتسامة ضائعة، وفرحة مغصوصة، ومنهم من يعتكف أو يرفض الزواج هذا هو وضع شبابنا. ففي عصر بات العالم فيه قرية واحدة، وفي عصر تطورت فيه وسائل الاتصال والتواصل، لا نرى فيه نحن الشباب سوى أسوار أسمنتية عالية وحياة اكثر تعقيداً، نلتقي آخر النهار أمام الشاشات الصغيرة؛ لنرى خلفها بزخ، واسفار، وحياة أُناس من عالم آخر؛ عالم بعيد غريب لا يشبهنا، ليكبر الالم في صدورنا ويموت العدل في عقولنا، ونعود لنتهم أنفسنا بالفشل أحياناً، وحيناً آخر نندب سوء حظنا الذي جمعنا بهذه البلدان أو حتى بهذه الحياة البائسة.

قال لي طالب في المرحلة المتوسطة، لما عليه أن يكمل علمه؟ فلا فائدة من شهادته حتى لو تخصص بالذرة! حسب قوله. أخبرني أنه من الأجدر أن يجد سفارة ويجرب حظوظ السفر من الآن. كلام مبكر وحديث سابق لأوانه يثير حفيظة الأستاذ ويربكه. كثير من تلامذة المدارس اليوم يسألون: هل المحسوبيات والواسطة كل شيء عندنا؟ هل يجب علينا أن نلتحق بحزب لنعيش؟ اذاً لما علينا أن نتعلم ونتعب؟ أسئلة صعبة، حيرة المدرس، تصل إلى حد الانكار والالتفاف حول الواقع الذي هو نفسه راح ضحيته.

حُلمنا "تأشيرة"، وطائرة تنشلنا من عالم موحش، في مجتمع بات بلا ألوان، وشوارع بلا روح، وعصبية، وخوف، واضطراب. أصبحنا كالدمى تمارس عليها تجارب نفسيّة أوصلت البعض حد الانتحار، وتشعبت مشاكلنا فأصبحنا آلات لا نشعر ولا نرى، نعيش كل يوم بيومه، وننتظر الأسوء، حروب إقليمية على أرضنا لا ذنب لنا بها ولا يد. أنها منظومتنا الفاسدة، وكل حلم بالتغيير ينقلب كابوساً على روؤس شبابنا، فلا قارب نجاة، ولا شاطىء يرضى باستقبالنا. بلد ينازع ويتخبط بأزمات اقتصاديّة واجتماعيّة، فمن أزمة الكهرباء حتى المياه وصولاً إلى النفايات. أزمات وتحديات دفعت الشاب اللبناني إلى المواجهة وخرق الواقع الأليم، فقدم بعض الشباب الطموح اختراعات وحلول للأزمات بشكل علمي ومبتكر، ببساطة رفضت جميع هذه المحاولات. لندرك في النهاية أن هذه الأزمات هي بمثابة مشاريع استثمارية يديرها الكبار لتعود عليهم بالكثير من الأرباح.

الباحث عن السعادة والأمل، هو تماماً كالباحث عن إبرة في كومة قش. يثابر الشاب من أجل الخبرات والشهادات، فيحصل على إجازة واثنان وثلاثة مع ورشات عمل ومؤتمرات، دون فائدة فلا سوق للعمل ولا للحياة، وأحياناً انت مرفوض لأنك تملك الكثير و"أكثر حتى من المطلوب". في مستنقع الفساد والخراب، يغرق الشباب في بحر الاكتئاب الموحل؛ هو بحر كبير عميق ثقيل، لا يتقنون فنون السباحة فيه، أو مواجهة أمواجه العاتية، فالتحديات باتت معقدة، ومجتمعاتنا الكهلة اليوم تدق ناقوس الخطر على روح الشباب التي دفنت باكراً.

الطموح والأحلام تماماً كالبذور تحتاج الى أرض خصبة كي تنمو، وتكبر، وتثمر، فإذا انعدمت البيئة، والأرض الخصبة، ظلت البذرة دون فائدة، جماداً لا يغني ولا يثمن، كذلك الشاب اليوم إن لم يأخذ فرصته، وينمي بذرته سوف يضحى جماداً بلا ثمار ولا فائدة. بأس البلاد التي تذبح من خاصرة شبابها لتموت تدريجياً خلف زنازين الفساد والمؤامرات، وبأس المجتمعات التي يرفض طلابها العلم، ويتكلم صغارها بالسياسة. فتلك مجتمعات لا يعول عليها، نحتاج اليوم الى صحوة وتماسك وإيمان يعيد شحن شبابنا، ليديروا أرضا ووطننا. حبذا لو فرزت للناس بلاد للباحثين عن الحياة، بلاد آمنة جميلة وهادئة، بلاد لا تحتاج إلى فيزا وأوراق معقدة للهجرة، هي بلاد للشباب للطاقات المميزة بلاد تطبق بها الأحلام، وتناقش بها العلوم والآداب، وتنجح بها الاختراعات، لا تلوث ولا سجون، ولا حتى فساد. حبذا لو كانت هذه بلاد الحالمين، والباحثين عن أمل، بعيداً عن الاكتئاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.