شعار قسم مدونات

بداوة الانتماء والعصبيات في المنطقة العربية

blogs الهجرة

ذهب ابن خلدون (1332-1406م) إلى أن البداوة مرتبطة بالمجتمع القبلي وحفاظ أفراده على جملة التقاليد والعادات المتجذرة فيه، واتفق مع ابن منظور(1232-1311م) الذي سبقه في لسان العرب على أن البداوة نقيض الحضارة، والشائع أن البداوة هي صفة للتجمعات البشرية غير المستقرة في المدن (الحضر)، والتي تميزت باعتمادها على الغزو، ثم الرعي في تأمين قوتها، والتجمع البدوي قائم في الأساس على رابط قرابة الدم، وهو الأساس في تشكيل القبيلة وتميزها عن قبيلة أخرى، فالأصل في كل قبيلة أنها تعود إلى جد واحد، وعند ظهور المدنية واعتماد البدوي على الرعي وزوال الغزو شيئاً فشيئاً، قلَّ تنقُّل البدوي، وأصبح أقرب للاستقرار مع بدء الزراعة إلى أن استقر واعتمد في تأمين قوته على الزراعة كمصدر أساسي، فكان استقراره خارج المدينة في البادية، ثم اقترب من المدينة ليستقر في الريف على حدود المدن، أو أن المدن اتسعت لتصل حدودها إلى أماكن إقامته.

فالبدوي مَن يعيش في البادية أو الريف، والحضري من يعيش في الحضر (المدن)، وعليه فالبداوة نقيض الحضارة. وبالتالي فإن هذا يطرح إشكالية تستحق التوقف عندها مفادها: أن البداوة قائمة على ركيزتين أساسيتين وهما العصبية القبلية فقط، ومكان الإقامة وهذا خاطئ. والصحيح أن للبداوة ركائز تتمثل بما يلي:
1- عصبية الانتماء (وليس بالضرورة أن يكون عصبية الانتماء للقبيلة فقط، فالعصبية القبيلية واحدة من عصبيات متعددة أخرى).
2- الانقياد الأعمى لشخص أو مجموعة، ورفض تقبل أي جديد ما دام مصدره خارج منظومة العصبية المنتمي لها.
3- الاعتماد على التلقي الشفهي للمعلومة وتصديقها دون تثبت (ما يمكن تسميته بالثقافة الشفهية).

البداوة والعصبية القبلية
يتصف البدوي -القارئ- عموماً بانغلاقه وانقياده الأعمى لقائد الانتماء الذي يتعصب له أو للمنظومة الفكرية التي ينتمي لها، فلا يعدو دوره فيها على كونه متلقياً لاقطاً يسعى للدفاع عن كل ما تنادي به هذي العصبية

تقوم البداوة على مجموعة مرتكزات معرفية تُنتِج انتماءات ضيقة قائمة على العصبية (والعصبية القبلية إحداها وليست وحدها)، وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: ما هي العصبيات الأخرى التي تراها سمة من سمات البداوة أو ركيزة من ركائزها وهذا سؤال وجيه (لن تنتهي المادة دون الإجابة عليه) شاع لدينا أن سمة البداوة الأولى وركيزتها الأساسية هي العصبية القبلية فقط، وسمة القبلي التعصب للقبيلة، وأن كل منتمٍ لقبيلة هو قبلي، إلا أن هذا الربط يحمل نوعاً من المغالطة، فكل من ينتمي للقبيلة ويُقدِّم إعمال عقله على الانقياد الأعمى والتسليم لقرارات شيخ قبيلته أو وجهائها، ويُخضِع هذه القرارات لمحاكماته المنطقية المرتكزة على مكتسباته المعرفية ليس قبلياً، لأنه ليس متعصباً لقبيلته، رغم انتمائه لها واعتزازه بهذا الانتماء. واستناداً إلى ماسبق ليس كل منتمٍ إلى قبيلة قبلياً ما دام غير متعصب لما تراه القبيلة، وبالتالي ليس بدوياً، انطلاقاً من افتراض أن العصبية القبلية هي ركيزة البداوة.

البداوة ومكان الإقامة

الإقامة في البادية أو الريف (خارج المدن) ليس شرطاً وحيداً للبداوة، فالبداوة قائمة على العصبية (بكل أنواعها وليس العصبية القبلية فحسب)، وقد يتخلى ابن الريف أو البادية عن عصبياته، وقد يتسم الكثير من سكان المدن بعصبية انتماءاتهم، وهذا ماتعيشه المنطقة العربية في الحضر، فغالبية شعوب المنطقة (سواء أكانوا يعيشون في الريف أو المدينة) يتميزون ببداوة الانتماء التي تضيق عن الانتماء للوطن، رغم أنهم يعيشون في دول تدعي شمولية احتواء الوطن لأبنائه بكل أطيافهم، ولكن تغلب الانتماءات الضيقة، ويُختزَل مفهوم الانتماء للوطن إلى عصبية الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي أو الإثني أو حتى التحزبي، لتتحول مصلحة الانتماء الضيق بأذهان هذه الجماعات إلى مصلحة الوطن. هذه الانتماءات العصبية تتميز ببداوتها، ولا تتعلق بمكان الإقامة أياً كان، وهي لا تقوم على أساس من الوعي والحس الجمعي بالمسؤولية، بل تقوم على أساس مطابق تماماً لركيزة الحمية القبلية، باعتبار أن انتماءنا القبلي هو الأساس في التعامل مع الآخر، وكل من يخالف هذا الانتماء لا مسؤولية أخلاقية نتحملها بالدفاع عنه ومناصرته إلا إذا كان هذا الدفاع يعود بالنفع على ما نمثلة من انتماء ضيق.

عصبية الانتماءات

بالرجوع إلى سؤال ما هي العصبيات الأخرى التي ترتكز عليها البداوة غير العصبية القبلية؟ الإجابة هي أنها عصبيات عديدة منها: العصبية الدينية، والطائفية، والإثنية، والعرقية، والتحزبية، وكل هذه العصبيات غير مرتبطة بمكان الإقامة، ولا أوضح من المثال اللبناني الداخلي والسوري الداخلي على هذه البداوة. فالبدوي السوري هو المتعصب لانتمائه الضيق، والمغلّب مصلحة جماعته على مصلحة الوطن، فإن كان بدوياً سنياً فهو يرى أن مصلحة الوطن بانتصار جماعته وحكمها للبقية، وحظر كل ما سواها وتفكيكه، وكذلك البدوي العلوي والبدوي الكردي والبدوي الحزبي. وهذا ينطبق على بداوة الانتماء في لبنان أيضاً.

منظومة الانغلاق والانقياد الأعمى لدى البدوي القارئ

يتصف البدوي -القارئ- عموماً بانغلاقه وانقياده الأعمى لقائد الانتماء الذي يتعصب له أو للمنظومة الفكرية التي ينتمي لها، فلا يعدو دوره فيها على كونه متلقياً لاقطاً يسعى للدفاع عن كل ما تنادي به هذي العصبية، وإثبات صحتها بالحجة، والغالب أنه رافض لقراءة مايخالف عصبيته، وإن قرأه فلهدف إثبات خطئه بناء على حكمه المسبق المنطلق من عصبيته. وهنا تتضح بداوة هذا القارئ لأنه يقرأ انطلاقاً من أحكام مسبقة جاهزة سلفاً.

اعتماد البدوي على التلقي الشفهي للمعلومة

عرفنا أن البدوي القارئ يمكن أن يتلقى المعلومة من مصادرها، لكنه لا يخرج من أحكامه المسبقة الجامدة، وهو غير قابل لتغيير أفكاره والأخذ بأي حجة أو إثبات خطأ مايعتنق من أفكار انطلاقاً من تسليمه بأن عصبيته الفكرية هي وحدها اليقين الصائب. أما البدوي غير القارئ فيعتمد اعتماداً مطلقاً على التلقي الشفهي للمعلومة، فالزعيم قال أو المفكر قال أو الشيخ قال أو فلان من الوجهاء قال.. إلخ، ولا يعتبر هذا البدوي أن ماسمعه يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، بل هو صواب دوماً، وبهذا تتم قيادة أفراد هذه العصبية كما يُقاد القطيع، والراعي هو القائد أو الرمز أو الشيخ وسواهم.

مصلحة الأنظمة في الحفاظ على البداوة

من المفترض أن تُغلِّب الدولةُ المواطنةَ أو الانتماء للوطن على الانتماءات والعصبيات الضيقة، إلا أن السلطات الحاكمة في أغلب المجتمعات العربية حريصة على إبقاء بداوة الانتماء حية بكل أطيافها العرقي والديني والإثني والطائفي والتحزبي وسواها من انتماءات وعصبيات، وتوظيفها لصالحها حين الحاجة لفرض سيطرتها وضمان مصالحها في الحكم، وهي حريصة أيضاً على إبقاء مكونات المجتمع عند حدود الانفجار في مواجهات بينية، بحيث تظل السلطة متحكمة بزمن وأماكن انفجارها دائماً. وإننا ندرك كم تتدخل تلك العلاقات القبلية والإثنية والطائفية في المحاصصة السياسية في كثير من الدول العربية، والدولة اللبنانية تعتبر المثال الأكثر وضوحاً على ذلك.

خاتمة

بناء على ما سبق، فأغلب مجتمعاتنا العربية ما زالت بدوية رغم اختلاف ركائز بداوتها القائمة على عصبيات مختلفة، ولن نبني أوطاناً حقيقية مالم نتخلَ عن بداوتنا المتمثلة في تغليب مصالح انتماءاتنا الضيقة على مصلحة الوطن التي تعني التعامل مع كل الانتماءات الأخرى على أنها شريك حقيقي، ولها نفس الحقوق وعليها ذات الواجبات التي يفرضها علينا انتماؤنا للوطن، وهذا لايمكن تحقيقه مالم نترك الثقافة الشفهية التي يتميز بها البدوي في تلقي المعلومة وتصديقها والبناء عليها (مواقف وردود أفعال)، وننتقل للثقافة الموثقة من مصادرها الدقيقة، فلن نخرج من بداوتنا هذه مالم نقرأ (ونناقش مانقرأه بعقل ناقد لا بعقل لاقط)، وننفتح على الآخر ونقرؤه بعيداً عن التعصب لأشخاص، وبعيداً عن الأحكام المسبقة. فليس لنا إلا الانفتاح على بعضنا على أننا شركاء، والتيقن أن اختلافاتنا ليست اختلافات أعداء، بل هي أمر صحي لا ينتقص منا بل يجعلنا نتكامل، وبذلك نخرج من مفهوم البداوة ونكون إلى التحضّر أقرب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.