شعار قسم مدونات

اسطنبول.. أكثر من مجرّدِ مدينة

blogs تركيا

يذكرّني "الفيسبوك" بما كتبتُه من عباراتٍ خلال السنوات الماضية احتفالا بالعام الجديد، كلّ منشورٍ من تلكَ المنشورات كان مختلفًا عن غيره، من حيثُ طريقة الاستقبال ولهفته، فعامٌ بدأتُه بالحماس وشعرتُ بأنّه قد يكون شيّقا من البداية، وآخر مضى مليئًا بالخيبة والثّقل، وعامٌ تمنيّتُ فيه زوالَ آثار خذلانٍ مضى، إلى أنْ وصلتُ في العام ما قبل الماضي لمرحلةٍ من الرّضا جعلتني أحمدُ الله أنّه كانَ عامًا بلا فقدٍ لعزيزٍ أو قريب، وهذا ما جعلني أخجل حينها أن أدوّنهُ ضمن الأعوام السّيئة، ثمّ ختمتُ عامي الفائت بأمنيةٍ بسيطة طلبتُ فيها من الله أن يكون عامي خاليًا من الأنصاف والأشباه وأن يمدّنا فيه بالصّحة، وكأنّنا مع الوقت ومع مرور السّنين نكتشفُ أنّ نعمةَ الأهل والأحبة مع دوام الصّحة هما الأهم في حياتنا، فلا قلوبنا أصبحتْ تقوى على مرارة الفقد، ولا أرواحُنا تستحق أن نعذبها بالوقوفِ طويلا على أمورٍ ثبتَ أنّ إدراكها في الحياة ليسَ بالأمر اليسير.

 

كان عامي هذا والفضل لله مميّزا جميلا، مليئًا بمتعة الاكتشاف والتعلّم، كنتُ على يقينٍ بأنّ سفري بمفردي للمرّة الأولى سيُضيفُ لي الكثير ويعلّمني الكثير أيضًا، فكان هذا العام عامَ الاكتشاف والدّهشة، فمهما كنتَ واسع المعرفة ومهما كنتَ اجتماعيا يعلّمك السفر مالا تعلّمك إيّاه أمور أخرى. وجدتُ في اسطنبول بعضَ ما بحثتُ عنه ولا تزالُ رحلة المعرفةِ في بدايتها، التقيتُ هنا بالكثير ممّن خذلتهم الحياة وعادوا ليقفوا من جديد، فحمدتُ الله أنّني كنتُ في نعمةٍ طالما قابلتُها بالتذمّر، صادفتُ مَن نجحوا في النّجاة من فخّها الكبير، ومَن سقطوا في دهاليزِها الكثيرة، ومَن منحهم الله مِن فُرص العودة إليه ما لو مُنِحت لسّواهم لأصبحوا أئمةً وقدّيسين، سمعتُ الكثير من الحكايات وشَهِدتُ على أُخْريات، وأيقنت أنّ جمال هذه المدينة يكمن في زيفها المفضوح، وفي قصصها المختبئة بين جدران يقضُمها القلق كلّ يوم.

 

في اسطنبول، تشعرُ بأنّكَ مُطالَبٌ بالحديثِ مع كلّ القطط، وبالصّلاة في كلّ المساجد، وبالدّعاء في كل الحارات، علّ وجوها كنتَ قد قرأتَ عنها في كتبِ التاريخ تخرج لك لتهديكَ دعاءً بلغةٍ بالكاد تعرفُها

في اسطنبول، لا تُطبَخ الذكريات فحسب، بل تُصنَع لها التماثيل، وتُقدّم لها القرابين كي ترضى، هي المدينة التي تُقاتِل فيها نفسَك كي تصمُد بعيدًا عن إغراءاتها الكثيرة، المدينة التي تُحوّلك إلى شخصٍ يتمنى لو كانَ شجرة، أو نافذة، أو بابا أو ربما عَتَبة مسجد على أن يكون رقمًا في سجّل زائريها الكُثُر. اسطنبول التي تتغذّى على قصائد مَن مرّوا على أرضها لتستمر مدينةً للأحلام والجمال والرّوحانية، والتي تعبث بعدّاد وقتك كي تمنحكَ السّعادة ببضعِ محطّات من الخيال وُجِدتْ فيها وحدها، هي نفسُها التي تحاصرك في زاويةٍ وتطلب منك أن تكون شخصًا آخر غيرَك كي تعيش، لن تحتاج فيها لمعاطفَ كثيرة فصقيعُها يضربك من الداخل وربّما يؤذيك، في هذه المدينة لن تألف وجوه النّاس حتى تُصبح مثلهم، ولن تصبح مثلهم حتى يحيط الشّك بك.

 

في اسطنبول تلتقي بالكثير من المشّاهير وبمن يلّقبون أنفسهم بالمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، فتتمنى لو أنّك لم تلتقيهم، وتعتذر عن آخرين هربًا من مُجتمع تفوحُ رائحة النفاق من مجالسه، تشعر وكأنّ أبطال هذه المجالس بارعون في اختيار أقنعتهم، مرة قناع اللّطف ومرة قناع الأخلاق والتّفاني ومرات كثيرة قناع الشّهامة، وهم كلّ ما يملكونه مجرّد صورة تصلُح للاستعراض على مواقع التواصل لا أكثر.

 

لا أعلمُ لماذا يُجهِد بعضُ الناس أنفسَهم في إظهار صورةٍ مختلفةٍ تمامًا عمّا هم عليه، ولا أعلمُ لِم يزالُ البعضُ يصدّق هؤلاء خاصةً مِن تلك الفئة التي اختارتْ قناعَ الدّين لتختبئ وراءَه، وهي تمارسُ التمثيل في أكثر دورِ بطولةٍ تُجيده. كتلكَ التي تملأ صفحاتِها بالمواعظ والحِكم وتفاسيرِ الآيات، ثمّ تكونُ على الواقع نُسخةً من الكذب والنّفاق، تلعبُ دورها بإتقان لتصطادَ الرّجال بأسلوبٍ أقربَ إلى الابتذال، ولكن برداء السّترة، أو ذاك الذي صدّع رؤوسنا بالحديثِ عن الحلال والحرام وضرورة الابتعاد عن العلاقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ تجده يقفزُ من فتاةٍ لأخرى على الخاص يُغريها بأساليبهِ البدائية.

 

أو تلك التي اختارتْ التطوّع ومساعدةَ الآخرين رسالةً لها في الحياة، ثمّ على أرض الواقع تحتالُ عليك في سكنٍ أو ربّما عمل وتخاطبك بفوقية كما لو أنّها ملكت الدنيا، وهي جلّ ما تملكه لا يتعدّى صفحةً تكذب فيها على الآخرين. في اسطنبول تختلطُ المشاعر بعضُها ببعضٍ في ثانية، فمرّةً تحبها، ومرةً تكرهُها ومرة تتمنّى وصلها، ومرة تتمنى لو تضربك أمواجها إلى مكانٍ بعيد لتجرّب غيرَها ثمُّ تعود.

 

بين جنبات هذه المدينة يُخالطكَ شعورٌ بالذنب لأنّك لم تُسلّم على كلّ الوجوه البائسة التي عَبَرَتْ يَومَك، ولم تُربّت على كتف كلّ الباعة المتجولين في برد طرقاتها. هنا في اسطنبول، يختبئ بعض الأصدقاء وراءَ أصابعهم، فتتظاهرُ بأنّك لم تَرَهُم حفاظًا على صورةٍ قديمة رسمتها لهم، أمّا البعض الآخر، فيتحول كالنوارس، يبحثُ عن قطعةِ خبز يسرقها منك وأنت تراقبه بابتسامة.

 

في اسطنبول، تشعرُ بأنّكَ مُطالَبٌ بالحديثِ مع كلّ القطط، وبالصّلاة في كلّ المساجد، وبالدّعاء في كل الحارات، علّ وجوها كنتَ قد قرأتَ عنها في كتبِ التاريخ تخرج لك لتهديكَ دعاءً بلغةٍ بالكاد تعرفُها. باختصار، هي مدينةٌ تجيدُ ضربك ومواساتك، وتحترفُ التلذّذ بعذاباتك، وتعتبرُ نصركَ في حربها هزيمة، فإيّاكَ أن تنتصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.