شعار قسم مدونات

الموت على عتبة الأحلام

BLOGS تفكير

يعتبر الموت حالة طبيعية في حياتنا، فمع بداية إدراكنا الف باء الحياة، فهمنا أن الموت هو رحيل عن الحياة إلى حياة أخرى أكثر سعادة وأمنًا، إذا أحسن الإنسان في دنياه وعمل صالحاً، ولم يؤذِ إنساناً، ولم يهدم عمراناً، أما الجحيم فهو لأولئك الذين قتلوا وسرقوا، وضيعوا الحقوق وجاروا على الإنسان، فهمنا الموت فهما عميقا دقيقا، وصنف له العلماء، والأدباء، واختلفوا في عذاب القبر، واكل ملة رأي ودليل، يحتجون به على راجح رأيهم، بل بعض الشعراء اختص بالحديث عنه دون غيره، وهو سلعة الوعاظ، فكل تهديدهم وعيدهم هو عن الموت، مع صوت خيول ترعد وتبرق، وأصوات مرتفعة عالية، لا تتناسب مع الموت، فالموت إذا حلّ حلت معه السكينة والوقار، لكن هذا مبلغهم من العلم وقدرهم من الفهم.

  

بينما نحن أمة لم نحسن الحديث عن الحياة، فقه الموت له مصنفات كثيرة، وفقه الحياة قل من سبر أغواره، ونحن واقفون دائما ننتظر الساعة أن تقوم، والجبال أن تنسف دون أن نحرك ساكناً، أو نسعى حياة لأفضل، نغضب لأجلها ونعلن الحداد على سوء الحياة، لكن هذا لا يحدث، نبكي كثيرا على الأموات، تدمع العيون لفراقهم، وتتلى الفضائل عن حياتهم، بينما هو نفسه كان منكداً في حياته، لا أحد يسأل عنه، أو يقوم بإجراء اتصال معه، فإذا ما مات اصبح الحبيب القريب من النفس، في حالة من النفاق الاجتماعي الذي تعيشه أمتنا، ربما بيننا وبين الموت أعوام وربما لحظات، أو ساعات، قد تكون اشهر معدودة، أو عقود ممدودة، دقائق قد تفصلنا عنه، لا نعلم، المهم نحن نجري خلف الحياة، والموت يجري خلفنا، محاولاً اختطافنا منها.

 

ربما أعيش مع الأموات أكثر من وجودي بين الأحياء، هناك على ضفاف الموت حياة اخرى، مع أناس مضوا وتركوا ندبة في القلب، تجاهلناهم في الحياة فرحلوا سريعاً من بيننا

الموت.. الذئب الذي يتربص بنا على مفترق الطرقات، أو عند البيوتات، يأتي خلسة في المساء ليخطف طفلا من بين أبويه، أو يكون في الشارع ليأخذ معه شابا من بين اصحابه، أو ينتزع فتاة من بين يدي حبيبها، أو ينهي رحلة طالب في مراحله الدراسية الأولى، أو يقتل حلم ام فيفجعها بفلذة كبدها، الموت ذئب في ثنايا انيابه دم أصدقائي، وأهلي وجيراني وأعمامي.

 

بالأمس القريب كتبت، على أعتاب المدينة أراد عناقها، لكن رصاصة غادرة قتلت الحلم، الموت على عتبة أحلام المجدين والطموحين، يقف متربصا بهم، بعد معاناة مع رحلة الحياة، ونكران من الأهل والأصحاب، مع أولى خطوة نحو الحياة، يأتي الموت ليستلب الفرحة، ويوأد الحلم في ارضه، لينهال التراب على صاحب الحلم، بدل أن تنهال عليه التبريكات والتهاني، ليكون عرس النجاح مأتماً وعويلًا، فهذا يموت بعد رجوعه من عقد قرانه، وآخر ينهي رحلة الحياة بسيارة عرسه، وثالث يغشى عليه في معرض الكتاب بعد صدور كتابه الأول، وطالب يموت قبل اعلان النتائج بيوم واحد، واخرون يغرقون في البحار والأنهار، على عتبات البلدان، ويمضي أناس تحت انقاض دورهم ومنازلهم، ويموت واعظ المدينة بعد حديثه عن الموت، إنها الرحلة الأليمة التي تخطف عنك اعز الناس بلمح البصر، لتمضي الذكريات تحت التراب، وتضيع معها البهجة والابتسامة.

 

ربما أعيش مع الأموات أكثر من وجودي بين الأحياء، هناك على ضفاف الموت حياة اخرى، مع أناس مضوا وتركوا ندبة في القلب، تجاهلناهم في الحياة فرحلوا سريعاً من بيننا، لتبقى ذكراهم لعنة في حياتنا ما حيينا، أننا أمة نقدر الأموات ونقيم لهم المحافل، ولا نقيم للأحياء اي اعتبار، أو نمنحهم قيمة لإبداعهم، أو عملهم، بل وحتى تشجعيهم للاستمرار والمحاولة، أما أنا فسأعلنها كما أعلنها يوسف السباعي من قبل في مقدمة كتابه أرض النفاق: "إنني أود أن أكرم نفسي وهي على قيد الحياة، فلشد ما أخشى ألّا يكرمني الناس إلا بعد الوفاة.. ما حاجتي إلى تقدير الأحياء.. وأنا بين الاموات؟ .. ما حاجتي إلي أن يذكروني في الدنيا وأنا في الآخرة! ويمجدوني في الارض وأنا في السماء!" إننا أمة أحسن فلسفة الموت، فضاعت منا الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.