شعار قسم مدونات

ما لم يره رفاعة الطهطاوي

blogs - مجتمع

رأينا العجب العجاب في المهجر خلافا للرؤية المثالية الحالمة، التي يرددها الكثيرون ممن لم تكويهم نيران الاغتراب في أصقاع المعمورة حيث اليمين المتطرف، فلا يكفي الانبهار بدقة المواعيد، فهنالك في المقابل دقة في الاستيلاء على ثروات الشعوب، ولا يكفي الانبهار باحترام إشارات المرور، فلم يرتدع الحكام الذين نصبوهم على رقابنا في تجاوزاتهم وسطوهم على أحلام المسحوقين المعذبين في الأرض، لذا يا صديقي لم نر في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، بل رأينا فيه الغريزة الحيوانية والشذوذ العلني والتحول الجنسي والزنا المشاع، رأينا فيه سلطة الأب المفقودة، والتشريعات البهيمية، التي تجيز ما لا يخطر بالبال حتى الزواج من الحيوانات تحت ذريعة القانون.

     

رأينا ما لا تصدقه العقول حين افتقدت الرحمة وانعدمت صلة الأرحام وارتكست الأخلاق، ووضع الآباء في دور العجزة والمسنين، وتركت الأرصفة ملاجئ لمن تشرد أو هام على وجهه في الأزقة والحارات، ليواجه نفوذ عصابات المافيا والسلب والنهب، وشاهدنا معاناة طوابير الفقراء حين نهبت مدخرات جيوبهم بكل صور الربا وأصنافه، واستولت مراهنات كرة القدم وأندية القمار على البقية الباقية، حتى الإعلان التجاري هو الآخر لم يسلم من التوظيف النفعي بإهانة المرأة، وجعلها سلعة للترويج والدعاية، والتفكك الأسري، وما أدراك ما التفكك الأسري؟ رأينا في الغرب ما لم يخطر على قلب بشر حين يتزوج أحدهم من محارمه، وترى السياسي يتشدق بالقيم، فيشفق على الحيوان ويتناسى الإنسان! فهل بعد ذلك من انحطاط أخلاقي؟

    

رأينا غربا يشرعن الانتحار ويعتاش على نواتج الجريمة، أصابه الانحلال الأخلاقي يطلب منا الذوبان، ونسيان الأصل والدين والتراث والقيم، بحجة أنه يريد منا أن نحترم قوانين البلد وقيمه

رأينا شيوع الإلحاد والإباحية وانحراف العقيدة وهجران الروحانيات، والإصرار على تعليم الصغار الجنس بحجة التثقيف الجنسي، والترويج لمفاهيم الحرية بكل سلبياتها وتقنينها وإن تطاولت على الدين، فانقرضت الخطوط الحمراء كمعيار يحكم الأمور، وجاءت الديمقراطية المفرطة بكل شوائبها ومثالبها، رأينا إزدواجية الغرب في إعلامه المظلل فلا يقل لنا أحد إنها نظرية المؤامرة، فقد سكت رجالاته وإعلامه عن سيل العنصرية المقيتة، ورأينا التفنن في التهرب الضريبي من كبار الأثرياء، وتخوفهم من الموت وحرصهم على الحياة، رأينا هدم الأنظمة الأسرية وتشجيع التبرج ومحاربة الغيرة، كخطوة تفضي لإشاعة ثقافة الانحلال والابتذال والميوعة والفساد، ورأينا معاكسة ما يدعو إليه الإسلام من العفة والسداد والصلاح والرشاد، فارتفعت نسبة الطلاق والنفور من الزواج وانتشار الإيدز.

   

ولا غرابة كنتاج لذلك أن يحمل الفقير حقدا طبقيا على هكذا مجتمعات، تشملها القسوة والتهجم على الثوابت والرسل والأنبياء، فرأينا التحريض على الرموز الدينية، والتدخل في المناهج، وإلزام المهاجرين بموالاة غيرهم، وحرب الحجاب، ورأينا كتائب المنهزمين والمنبهرين من أبناء أمتنا، في كل ما نعانيه من عقد طبائع الاستبداد والدعايات الموجهة، لتصنع عقدة النقص التي تولد الإعجاب بالإيجابيات المفقودة، مما يعطي انطباعاً بأن الغرب أفضل، وبالأخص أولئك الذين أعماهم الانبهار بحضارته، فذابت هوياتهم وضاعت ذواتهم، وبات الغرب جراء ذلك كله يذيقهم ويلات الأمور لينعتهم: أنتم لم تندمجوا جيدا في مجتمعاتنا؛ وحتما ستظل هذه الفزاعة سيفا مشرعا على رقابهم صبح مساء، ليجدوا أنفسهم مدانين بأثر رجعي، وملزمين بالتبرؤ من الإسلام في كل مرة تحت حجة محاربة الإرهاب.

    

رأينا غربا يشرعن الانتحار ويعتاش على نواتج الجريمة، أصابه الانحلال الأخلاقي يطلب منا الذوبان، ونسيان الأصل والدين والتراث والقيم، بحجة أنه يريد منا أن نحترم قوانين البلد وقيمه. رأينا غربا ازدوجت معاييره، وانتكست مواثيقه، وانفصمت عرى روابطه، وتبجح بالحريات ليل نهار، واستكثرها على المساكين الذين لا يملكون قوت يومهم، والذين ضاعت بوصلة طرقاتهم، رأيناه وقد تنصل من مؤازرة ربيعنا العربي، وانحاز للثورات المضادة والدولة العميقة، فأفلت أعضاء أحزابه اليمينية في عرض البلاد وطولها، نشر أرشيفه في بلادنا ليعلمنا انحناءة العبيد، واسوداد وجوه الخاضعين، ومذلة العصاة الهائمين، آه كم تاقت أنفسنا يا سادة يا كرام بعيدا عن هذا الغرب الظالم لشربة ماء من عين الإنسانية، ونسمة هواء من عبق روائح الربى الوردية، ولمحة بصر ترنو لما خلف الأفق من طيبة وعفوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.