شعار قسم مدونات

عذرا ميكيافيلي.. الغاية لا تبرر الوسيلة أبدا

blogs تأمل

قام "ستِفين كوفي"، الفيلسوف والكاتب الأمريكي الشهير، في كتابِه "العادة الثامنة" بعملِ مقارنَة بين الأنَا والضَّمير على أنّهما شيئا متضادّان فقال: "الأنا تركِّز على بقاء الشخص ولذّته وتطوُّره دون الآخرين وذات طُمُوح أناني. أمَّا الضَّمير فهو يَرتَقِي بالأنا وينزِع استبدَادَها، لكي تكسَبَ إحسَاسًا أوسَع بالجماعَة، بالكلّ، بالمجتمع، بالنَّفع الأعظَم، إنَّه يَرَى الحياة خِدمة وإسهَامًا فيما يتعلَّق بأمانِ الناس ورضاهم".

وأنا أتَّفق مع "كُوفي" في تعريفه للأَنَا، بينَما في كلامِه عن الضمير يبدو لي أنّه يتحدَّث عن النفس المطمئنَّة وأثَر الإيمان عليها، فهو إلى حدّ كبير يصفُ شخصاً ربانياً، فالضَّمير من وجهة نظري مشعر قلبي محلّه القلب مثل الحبّ، فالذي ليس لديه ضمير يمكنه أن يحبّ شخصا آخر ولكنه في نفس الوقت قد يقتل شخصا آخر من أجل أتفه الأشياء، مثل المُلُوك والسَّلاطين المستبدين، قد تسلُب امرأة ما عقله ويفعل من أجلها كلّ شيء، لكنَّه يقتل عالِما خالفَه في الرأي.

ولتوضيح الصُّورة أكثر، فإنّ القُرآن يعرّفنا أنَّ أقسام النَّفس ثلاثة، وهي النَّفس الأمارة بالسُّوء (وهي الأنا في تعريف كوفي) كما في الآية "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"، والنفس اللّوامة (وهي التي تكون بين تعريفيه للأنا والضَّمير) كما في الآية "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ"، والنَّفس المطمئنّة (وهي التي يقول عنها أنها الضمير) كما في الآية "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ". بينما الرُّوح، لم يتوصَّل العلم إلى ماهيتها الحقيقية وتبقى كلّ النتائج مجرّد تكهنات لقوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا"، إلا أنَّ الروح في تقديري متصلَّة بالله، وهي حبل الله الممدود إلينا ليوجِّهنا إلى الطريق المستقيم، وربما تكون الحدس، وقد تكون شيئًا آخر.

الإيمان بالمبدأ هو ما يُخبرك دائمًا بقيمَة الغايات والوَسَائل وكيف أنَّهما لا ينفصلان لكن الأنا هي التي تجمّل لك الأساليب الشريرة دون الوعي بأنَّ الغاية القيِّمة لا تُنَالُ بوَسَائِل دَنيئَة

فالإيمانُ بالمبادئ والأخلاق الروحية يُساعد على ترويض النفس (الأنا)، والتحكُّم في شَهَواتِها ومتطلَباتِها الأنَانِية، والارتقاءِ بهَا إلى النَّفس اللَّوامة، التي تلُومُ عند التقصير وتُحاسب عند الإخلالِ بالواجبات الشرعية، ثمَّ إلى النفس المطمئنَّة، وهي امتلاك الصبر والحكمة اللاَّزمان لاتخاذ قرارٍ بما يجب فعله ومتى، وهي قادرة على التكيُّف مع الأحداث المعقدّة. وهذا ما يؤكِّد حريَّة الاختيار للإِنسان، فنفسُه غالبًا هي التي تحدِّد خياراته إمَّا صحيحة أو خاطئة، يقول كوفي "أنّ حرية الاختيار تكمن في لحظة موجودة بين المثير والاستجابة"، بمعنى أنَّ الإنسان يتعرَّض لموقف ما (وهو المثير) ومن تلك اللَّحظة حتى ردّة فعله تُعتَبَرُ اختيارًا، وأظنّه في رأيي يقصد العزم "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه"، فالقرآن يعلّمنا القضاء على التردد.

فَإن كَانَت الأنا متضخِّمة فستقرّر هي، وتفسّرُ جَمِيع البيانات من مَنطقِ حفظ الذات، وتُنكر كثيرًا من الحَقيقة، وأمَّا إن كانت نفسا مطمئنَّة أو الضَّمير على حدّ تقدير كوفي فتقدّر التغذية الراجعة وتُحاول الوُقُوفَ على ما فيها من حَقِيقة، ويمكنها أن تفسّر بدقَّة حَقيقَة ما يَجرِي. وبما أنَّ (النفس المطمئنَّة) الضّمير، هي تنحيَة الذات أو الأنَا لدى الشّخص لصَالِح الغاية أو المبدَأ الأعظم، فهُنا لا يمكن لأيّ شخص ذو مبادئ وإيمانٍ حقيقي بأيّ حالٍ من الأحوال أن يحقِّق الهدف الأنبل والأعظم من خلال وَسَائِل خَسِيسَة، لأنه لا يُمكن الفصل بينَ الغايات والوَسَائل كا يقول إيمانويل كانت: "إنَّ الوسائل المستخدمة لتحقيق الغايات بذات أهمية الغايات".

لذلك فإنَّ بُلُوغ الغايَة بالوسائِل الخاطِئة، سُرعان ما يُحوِّل تلك الغَاية إلى سَرَاب. وهذا ما نُلاحظه في عُظماء الأمة. تأمّل: أفضل الخلق محمد صلّى الله عليه وسلم، المهاتما غاندي، مانديلا، لوثر كينج، لينكولن، أينشتاين.. خلّدهم التاريخ بينما هتلر، ميكيافيلي وغيرهم، فقد أصبحوا مشاهير بالفعل بمواقفهم ولكنَّهم لم يُحدثوا تغييرا إيجابيا حقيقيًا ليكونوا من العظماء. فالإيمان بالمبدأ هو ما يُخبرك دائمًا بقيمَة الغايات والوَسَائل وكيف أنَّهما لا ينفصلان لكن الأنا هي التي تجمّل لك الأساليب الشريرة دون الوعي بأنَّ الغاية القيِّمة لا تُنَالُ بوَسَائِل دَنيئَة، وقد يبدو للوهلة الأولى أنّه يمكنُ ذلك، لكن ثمَّة عواقب غير مَقصُودَة لا يمكن رُؤيتُها في البداية سوف تدمِّر غايتك بالنِّهاية حتماً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.