شعار قسم مدونات

ترى! هل سنرجع سوريين يوما؟

blogs سوريا

هنا كنا!، لم يكن هناك صوت صاخب يعكر صفاء ذاك الربيع، يوم ككل الأيام التي نزرع فيها بذور الأمل على تراب طالما عشقناه، لم نعتد يوما على تفريق بين ذراته اينما كانت، من شرق بلادنا الى غربها، من جنوبها الى شمالها، لم نعشق ذرة دون سواها، ولم نميز انسانا عن انسان وطئ ثراها، فكلها سوريا وكلنا سوريون.. سويعات قليلة قبيل العصر، اشتد التعب وتملّك من النفس والجسد، ادخل بيتي مبتسما لأقبّل ابنتي الوحيدة.

يرن الهاتف بجنون، قد تكون رناته كالمعتاد لكن احساسا خالجني أن هناك أمر ينذر بسوء. ارفع السماعة، لأجد صوتا يجهش "يا عبيدة.. المشفى.. الجرحى.. أطباء.. حذارِ.. أين أنت.. الفوعة". للوهلة الأولى لم تكن سوى طلاسم تنذر بوقوع شيء ما كان ليحدث، وما كان لعاقل أن يتصوره، ويقفل الخط. أعاود الاتصال، لأسمع كلمة "جرحى من الفوعة"، ويغلق الخط من جديد!. ركبت سيارتي، أقودها بجنون، لم أستطع إحصاء الزمن الذي قطعت فيه عشرات الأميال، يوقفني الحرس الذي أقابله كل صباح، وأودعه كل مساء: "قف أريد تفتيش السيارة"، وهو يفتش سيارتي التي ما اعتادت التفتيش على يديه.. أذكر نظراته، عيونه المحمرة، وجهه المتعب، دموعه الحيية: "يا ربي ترحمهم، يا ربي ترحمهم"، شهقاته التي يخبئها خلف جبروت عظيم طالما اعتدت عليه في ملامح وجهه وقامته.

أعوام مضت وانصرمت على تلك الواقعة، وحالها كحال كل الوقائع المؤلمة التي نحتت مكانا لها في الذاكرة يأبى أن يزول، وفي كل تطوّر جديد يطرأ على حالنا كسوريين في الأزمة المتراكبة التي عصفت وتعصف بنا

الخامس عشر من نيسان من عام 2017 ميلادية، يوم من أيام الله، عشرات الجرحى ملقون هنا وهناك، لم تتسع ساحة الإسعاف الصغيرة لهم. أهرع مسرعا إلى بوابة الإسعاف، لأسمع صوتا مبحوحا يجهش وينادي في الناس المكتظّة بأقصى طاقة يملكها "من يعرف استخدام الحقنة فليدخل إلى الإسعاف، من يعرف استخدام خيط الجراحة فليدخل إلى الإسعاف. بين أيدينا أرواح تزهق" يعيدها ويعيدها، حتى أنّ صوته يئن في أذني حتى اللحظة. غرفة التمريض، ممرات الاستشفاء، مكاتب الإداريين.. وحدها اتسعت لتحضن أطفالا ونساء ورجالا شيبا وشبانا. رائحة الدم في كل مكان، صراخ وعويل. أفواجا أفواجا عند بوابة غرف العمليات..

طبيب الإسعاف الذي ارتسمت صورته في ذاكرتي بيمينه قلم، وجالسا على طاولة، يفنّد الملفات ويرتب الجرحى. اليوم أرى فيه إنسانا آخر، جبينه المحمرّ يتصبب عرقا، يداه مثقلتان بالأدوات التي أمسكها وكأنها تحاول الهروب من بين يديه، عيناه تكبت دمعات تأبى إلا أن تنزل على خدّين متعبين، يتنقّل في ساحة تغصّ بالجرحى، ليس فيها موضع شبر إلا وفيه طفل أو امرأة أو شيخ أو شاب نازف. يتنقل بينها بخفّة وسرعة، وكأنه يتنقّل بين قوارير يخشى أن يخدشها أو يؤذيها، يتفقّدها واحدة واحدة، لا زالت عباراته تطرق باب مخيّلتي "يا أمي ردي عليي، سامعتيني؟ أنت بخير، لا تخافي" ويعيدها عند كل مريض، مع غصّة اقشعرّ منها بدني، وهو ينادي كل جريح حسب عمره وجنسه "أختي.. أخي.. عمّي".

أخرج من بين الزحام لأسأل المسؤول الأمني عن هول ما يحدث، فيأتي الجواب ثقيلا على مسامعي "تفجير استهدف مدنيين يتم إجلاؤهم إلى حلب من قريتي الفوعة وكفريا الشيعيّتين المحاصرتين من قبل قوات المعارضة منذ ٣ سنوات". في ظل لحظات القيامة التي نعيشها، وقع الكلام عليّ كالحسام المهنّد، ليس لهول الإصابات فحسب، فحدوث مجزرة كهذه بحق طرف من طرفي الصراع السوري – السوري، ليس بالجديد أو المستهجن، فكلانا ضحية لجلّاد واحد، أو عدّة جلّادين إن صحّ التعبير. إنّما لإنسانية ما رأيت، الطبيب ذاته الذي لا يدّخر جهدا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو ذاته الذي كان طوال 3 سنين يعالج الجرحى والمصابين بسبب آلة الحرب التي كانت رابضة في تلك البقعة التي يتم إخلاء المدنيين منها!، هو ذاته الذي عانى من التعذيب الجسدي والنفسي على أيدي العسكر يوما ما، فقط وفقط لأنه كان طبيبا ذو مهنة إنسانية.

لم أعد أسمع شيئا مما يدور حولي شعرت باختلاط غريب للمشاعر، لم يكن يوما ليصيبني. انسحبُ بهدوء من بين الزحام، أسير في خطوات متعبة، ذهن شارد، رأس مطأطئ وعينين لم تعد ترى أمامها سوى ذكريات الزمن الماضي بحلوها ومرّها. أجد زاوية ميّتة، اسند ظهري إليها، لم تعد تحملني قدماي، ينسحل ظهري ملاصقا للجدار وتنثني ركبتي لأجد نفسي مستندا إلى الأرض، كالطفل الصغير الذي يبكي ولا يعرف لماذا يبكي!، فقط لأنه يحتاج للبكاء.

أعوام مضت وانصرمت على تلك الواقعة، وحالها كحال كل الوقائع المؤلمة التي نحتت مكانا لها في الذاكرة يأبى أن يزول، وفي كل تطوّر جديد يطرأ على حالنا كسوريين في الأزمة المتراكبة التي عصفت وتعصف بنا، نعيش متفرّقين تفاصيل تلك الحادثة المؤلمة، قد يكون بصورة مختلفة، لكن بمضمون واحد، مجتمع يرزح تحت وطأة حرب ظالمة، يدفع المجتمع فيها بكل أشكاله وأطيافه وأديانه ضريبة لأحداث لم يكن هو سببا فيها أو لها، فينجرّ دون دراية منه، ويخرج بشكل تدريجي من غايته السامية في بناء مجتمع متماسك ينشد لتحقيق القيم الإنسانية السامية التي تسعى للحرية والعدالة والمساواة، بعيدا عن مفهوم بناء جسور التواصل مع أقرانه وإن كتب عليهم التاريخ أن يكونوا في جغرافيات أخرى على تراب وطن واحد مكلوم.

فلعل التواصل الذي جرى بين طرفي المجتمع بعد انقطاع دام لثلاث سنين عجاف، كان كفيلا ليفتح أبواب قلوب أوصدت، بأقفال الديكتاتوريات المقنّعة بقناع الحرية. ويبقى السؤال الذي يراودني دائما: ترى! هل سنرجع سوريين يوما؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.