شعار قسم مدونات

أطياف محمود درويش

blogs - محمود درويش

جل ما كتب عن محمود درويش هو ذات الأمر الذي حذّر منه درويش: "يغتالني ﺍﻟﻨُﻘَّﺎﺩ ﺃَﺣﻴﺎﻧاً: ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﺍﻟﻘﺼﻴﺪﺓ ﺫﺍﺗَﻬﺎ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﺎﺭﺓ ﺫﺍﺗﻬﺎ… ﻓﺈﺫﺍ ﻣَﺸَﻴﺖُ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻖ ﺟﺎﻧﺒﻲّ ﺷﺎﺭﺩﺍً ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻟﻘﺪ ﺧﺎﻥ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖَ. ﻭﺇﻥﻋﺜﺮﺕُ ﻋﻠﻰ ﺑﻼﻏﺔ ﻋُﺸﺒَﺔٍ ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﺗﺨﻠَّﻰﻋﻦ ﻋﻨﺎﺩ ﺍﻟﺴﻨﺪﻳﺎﻥ. ﻭﺇﻥ ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻮﺭﺩ ﺃﺻﻔﺮَ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺗﺴﺎﺀﻟﻮﺍ: ﺃَﻳﻦﺍﻟﺪﻡُ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲُّ ﻓﻲ ﺃﻭﺭﺍﻗﻪِ؟

  

من السذاجة تحويل محمود درويش لأسطورة شعرية، وهو المتماهي مع الأسطورة اللغوية، والتجربة الشعرية المحفوفة بالمخاطر والتراكم المعرفي والتاريخي، لا بوصفه قديسا شعريا، بل بوصفه نحات اللغة والتجربة، والشاعر الأكثر قدرة على تمثل القصيدة الحديثة إيقاعا وشكلا ورؤية، وربما تكمن خطورة تحويله لأسطورة شعرية في عدم فهم تحولات محمود درويش الشعرية والسياسية والجمالية بل والفلسفية، بعيدا عن اختزال درويش في صورة شعر المقاومة والأرض والوطن كما فعل شاكر النابلسي في مجنون التراب، و وبعيدا عن التسطيح الصحفي الذي مارسه رجاء النقاش، وغيره من أتباع مدرسة النقد الجديد في نسختها العربية.

 

ربما ينتمي غسان كنفاني لصوت المقاومة المفتوح على كل احتمالات الحياة والفن والواقع (الثقافة درع للمقاومة، لكنها لا تغني عن البندقية وعن الحجارة وعن نطف الأطفال التي تهرب عبر سجون الاحتلال! كان ينظر غسان للمقاومة من الداخل الفلسطيني المحاصر بالدبابات والرصاص والاحتمالات المستحيلة. وربما يكون محمود درويش وجها آخر للمقاومة، لكنها مقاومة أكثر نخبوية من غسان بلا شك، وأكثر شعرية وغنائية من الواقع، وربما أكثر اتكاءا على ضرورة الشعرفي زمن الكارثة! كلاهما يرى جرحه بعين المحارب الطروادي. وكأني بهما يتفقان على مشترك وجودي: جرحي وردة ناصعة البياض. جرحي جسر العبور لأندلس الكتابة والحريق!جرحي بلسم الروح الأبدي!

 

كلنا مصابون بمرض اللغة الشعرية وأطياف محمود درويش التي تسكننا وتعيد لنا سرد الحكاية، والتغريبة الفلسطينية، والمنفى المتدرج، والنوستالجيا المفخخة بالمكان، واللامكان

ربما يكون محمود درويش من الشعراء العرب القلائل في القرن الواحد والعشرين الذين أنجزوا مشروعا شعريا يقاوم الزمن والتاريخ، بتعبير جوته، فكان شعره معادلا موضوعيا لنبض الشارع والجماهير، وبوصلة العربي المصاب بمرض الهوية والمنفى والاغتراب الوجودي واللغوي. خرج علينا درويش كالأبطال الملحميين، لا ولد له، ولا أب شعري مقدس، ولا عشيرة أدبية أو فكرية كما فعل الآخرون من تجار الأيدولوجية، فلا هو نسر يرضى بالقمم، ولا هو صقر يفتش عن فريسته في الماء العكر. والمفارقة أن درويش لم يتأثر بالشعراء الآباء من فلسطين إلا بشكل محدود؛ لكنه تأثر بإليوت وشكسبير، وريتسوس وييتس واسخيليوس وهوميروس وجده المتنبي وسليم بركات.

 

كلنا مصابون بمرض اللغة الشعرية وأطياف محمود درويش التي تسكننا وتعيد لنا سرد الحكاية، والتغريبة الفلسطينية، والمنفى المتدرج، والنوستالجيا المفخخة بالمكان، واللامكان، والهنا والهناك. كلنا نحتاج معجم محمود درويش اللغوي والفلسفي لا لنعبد صنم الشعر في صورته، بل لنحترم اللغة العربية والحضارة العربية والإنسانية في صورتها الطباقية، كما يفهمها الموسيقي العبقري: ثمة نوتات متنافرة كثيرة، يعيد الموسيقار والمؤلف الموسيقي موسقتها كي يخرج علينا بعمل موسيقي يحاكي هذا التنافر الداخلي، لكنه متناسق ومعمق ومتناقض في الوقت ذاته. هو تآلف الفلسطيني مع منفاه وغربته وعزلته الوجودية، لكنه تآلف متناقض بالضرورة تاريخيا وجماليا، لأن الشعر لدى محمود درويش اشتهاء بلاغي ونزعة فلسفية أصيلة متناقضة تعيد للذات مكانها المتخيل في عالم متوحش، وتعيد للغة هيبتها في زمن جعل منها أضحوكة أمام السرديات الغربية والحداثة الأوروبية المركزية، فكان بهذا فعل مقاومة داخل النص وخارجه. بل تكمن مفارقة الشعر الطباقي حسب صديقه إدوارد سعيد في قدرة المفكر والشاعر على الانطلاق من الهامش، وتحويل المحلي لسردية كونية، وتحويل الكوني لسردية محلية، في صورة لا متناهية من حوار السماء مع الأرضي، وحوار الأرضي مع السماوي، فلا المركز يختزل الهامش، ولا الهامش يختزل المركز. كلاهما صدى للآخر، كما يرى جاك لا كان في تصوره الرمزي للذات؛ فهي حوار مفتوح على الواقعي والأسطوري والمتخيل، والقصيدة مختبر جمالي للقصيدة التي تفرك أنف السياسي في وحل الجمالي، وتعيد تصور المأساة قبل النكبة وبعد النكبة. وربما يكون هذا التمثل اللغوي والمعرفي جليا في قصيدة جدارية، وتبدو فكرة الأبدية بوصفها فكرة شعرية محضة وليست ما ورائية تطارد قصيدة درويش كفكرة شكسبيرية خالصة، فالقصيدة لدى درويش وشكسبير هي انتصار على هشاشة الزمن والمعنى والعالم:

  

سأصير يوماً طائراً، وأَسُلُّ من عَدَمي

وجودي . كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ

اقتربتُ من الحقيقةِ، وانبعثتُ من

الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين، عَزَفْتُ

عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ

رحلتي الأولى إلى المعنى، فأَحْرَقَني

وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ

الطريدُ .

 

المدهش أن درويش ظل مسكونا بهاجس اللغة والمكان واللامكان لأنه يدرك أن ذاته تقيم في اللغة وخارج المكان في الوقت ذاته. فلا الحداثة الشعرية شرط مسبق لقصيدته، ولا القصيدة شرط مسبق لحداثة درويش، فهو يدرك الخفة الشعرية على طريقة كونديرا، لكنه يفعل هذا لأنه ولد على دفعات، ولأنه خرج من ضيق الهوية إلى سعة القصيدة والرؤية، فسؤال الهوية غير مرهون بالجغرافية والثنائيات والآخر. درويش يدرك سؤال الذات والآخر، ويدرك أن كينونة الفلسطيني التي تعرف بالوجود الإسرائيلي هي كينونة قيد التأليف، فالفلسطيني خارج فلسطين وداخلها يقاوم عنف الجغرافية الذي أوجدته إسرائيل وفعل النكبة، فصارت الكتابة الفلسطينية تشبه تماما أسطورة أنكيدو في بحثه عن عشبة الأبدية: الكتابة شكل جمالي لمقاومة تطهير الذاكرة الجماعي، حسب وصف إلان بابيه:

 

لا أعرِّفُ نفسي

لئلاّ أضيِّعها. وأنا ما أنا.

وأنا آخَري في ثنائيّةٍ

تتناغم بين الكلام وبين الإشارة

ولو كنتُ أكتب شعراً لقُلْتُ:

أنا اثنان في واحدٍ

كجناحَيْ سُنُونُوَّةٍ

إن تأخّر فصلُ الربيع

اكتفيتُ بنقل البشارة!

 

لقد أعاد محمود درويش للمعجم الشعري صورته المتوترة والقلقة حسب تعبير المتنبي، فلم يختزل نفسه في صورة الحداثة الشعرية، وينسى الآبار القديمة التي ينهل منها الشاعر الفيلسوف، والفيلسوف الشاعر، فظل حفيد زرقاء اليمامة، وهو يحدق في صورة المعري وبصيرة العمى في شعره، ثم تراه يطرق رأسه أمام عبقرية المتنبي نصا ورؤية، ويطرح التحية على صديقه سليم بركات، ليس احتفاء برومانسية المنفى والجنوب، بقدر ما هي "رمية نرد في بقعة من ظلام". وبين محاكاته الشعرية التي تقاوم يقين الحداثة، وتعيد قراءة التراث الثابت بعين الرائي والعراب، ندرك أن مشروع درويش كان نموذجا حداثيا لا يمكن اختزاله في "وطني حقيبة" أو "وطني ليس حقيبة"، لأن المكان في شعره هو إعادة تخييل للزمكان، وإعادة كتابة للزمن الضائع في تاريخ الفلسطيني المحاصر بالحجاج والبرامكة وشبح كريستوفر كولومبس ونابليون.

 

أزعم أن محمود درويش قد قتل الكثير من الشعراء من مجايليه أمثال سميح القاسم وعزالدين مناصرة وطاهر رياض وغيرهم، بل لم نعثر على ناقد واحد عربي استطاع أن يقدم لنا عصارة تجربة محمود درويش الفلسفية والجمالية في سياقها الذاتي والكوني الشمولي، فسقط النقاد في فخ الأكاديمية والاكليشيهات الجاهزة، وسقط الكثير من الشعراء في محاولات بائسة لملاحقة شبح درويش أو أطيافه التي لا يمكن مجاراتها، بل يمكن نقدها نقدا ابيستومولوجيا وبلاغيا يوازي عمق التجربة وأثرها الذي "لا يرى ولا يزول".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.