شعار قسم مدونات

الأدب السوداني أرضية خصبة وناتج شحيح

blogs الطيب صالح موسيم الهجرة إلى الشمال

أيام وينطلق معها معرض القاهرة الدولي للكتاب وسط حماس وتجاوب شبابي كبير ودعاية رسمية وأدبية ضخمة وتسابق من دور النشر المصرية وحتى العربية على طرح جديدها ومحتواها الأدبي والعلمي والروائي الذي تعكف عليه في كل عام قبل أن يتجدد الحدث في العام الذي يليه فالمعرض الذي سينطلق في الـ22 من يناير يعد أحد أكبر المعارض في الوطن العربي إن لم يكن أكبرها يعد محفلاً أدبياً ومنتظراً ومهماً لكل رواد الأدب من الكتاب والقراء على حد سواء.

   

وقفت أطالع كما هي العادة تلك الاستعدادات المتكررة في كل عام بصفتي مهتماً بالأدب ومحافلها الدولية والعربية وجوائزها الذي بدأت تتكاثر مؤخراً في حركة مبشرة وخصوصاً على الصعيد الشبابي والذي نشهد فيه إقبالاً ملموساً على تلك المعارض فمعرض القاهرة شهد على لسان الهيئة العامة المصرية للكتاب ما يقارب الـ3 ملايين زائر في دورته الماضية أرقام لا تختلف كثيرا حسب الإحصاءات الرسمية في عدد من المعارض الدولية العربية كمعرض الجزائر ومسقط والرياض وعمان الأردنية التي تفيد بزيادة عدد الشباب وهو ما يمكن التماسه عموماً من حركة القراءة المتجددة وظهور الكثير من القنوات الشبابية على اليوتيوب فيما يعرف بالبوكتيوب أو على مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعاتها

 

وبعيداً عن تلك المعارض حل معرض الخرطوم الدولي بأكتوبر من العام الماضي وسط حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي على حد السواء بعد ما يقارب العام من ثورة اشتعلت في ديسمبر من عام 2018 ليجد المعرض وزواره نفسهم أمام العديد من التحديات المتمثلة في دولة تحاول التعافي من آثار نظام قضى على الأخضر واليابس من مقدرات ومصادر هذا الشعب الغني ليخرج ضعيفاً وسط استياء شعبي واسع نتاج غلاء أسعار تلك الكتب وهو ما فرضه الواقع الاقتصادي السيء الذي تمر به البلاد حيث فاق فيها سعر الدولار الـ60 جنيهاً وربما السبعين واستمر في التأرجح ما جعل شراء تلك الكتب أشبه بالمعجزة للطبقة الدنيا والوسطى التي تكافح من أجل لقمة العيش مفضلين ادخار تلك الملاليم للقمة رغيف تسكت جوعهم بدل كتاب يسكت تساؤلاتهم فالكتب لا تأكل وأوراقها لا تصنع الحساء.

  

سواء بطريقة مباشرة أو حتى بطريقة غير مباشرة فقد أضرت حملة الحرب الشعثاء على الكتب بالأدب السوداني لكن لعنة القرية كادت تناطح النظام حربه على كل ما ينتج من أنامل أدبية سودانية

الوضع الاقتصادي السيء والشكل الباهت الذي ظهر به معرض الخرطوم لم يكن وليد العام ولا صنيع اللحظة بل كان نتاج تدهور اقتصادي طويل بدأ في عام 2011 بانفصال الجنوب الغني بالنفط ليترك النظام متخبطاً اقتصادياً بغياب أكثر من 70 بالمئة من عائدات البلد النفطية لكن الفشل الاقتصادي لم يكن السبب الوحيد في حالة التدهور التي يشهدها الأدب السوداني عموماً ومحافله على التوالي بل شكلت مجموعة من العناصر المتراكمة حالة ركود أدبي وثقافي شهده السودان على مر 3 عقود عجاف من حكم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير

 

شعب يقرأ شعب لا يجوع ولا يستعبد

كلمات جاءت على لسان الكاتب الجزائري أمين الزاوي كلمات يبدو بأن الأنظمة الديكتاتورية تدركها تماماً فلم يكن نظام البشير فلم يَحُد عن هذه القاعدة جاعلاً من الكتب ومحاربتها وكل ما يمد لها من صلة أحد أهم اهدافه فعكف على مصادرتها وملاحقة كاتبيها والتضييق على روادها ومنتدايتها حتى بلغ به الأمر منع تجمعات تبادل الكتب اللاربحية التي كمبادرة مفروش الشبابية خوفاً من تحولها إلى منتدى شبابي يكون شرارة انطلاق لعمل ثوري وشبابي منظم.

  

تضييق لم يقتصر على الكتب فقط بل شمل المجلات والصحف والمواقع والمنتديات الثقافية حتى كاد السودان يتحول إلى أحد روايات الديستوبيا المرعبة التي ظل الجميع يقرأ عنها بوجل ورعب، منع وتحجيم لم يقتصر على ما ينتج من الداخل بل طال ما يأتي من الخارج ليكون معرض الخرطوم الدولي أحد ساحات زبانية المنع فمنعت عدد من الأعمال لسبب أو حتى بدون سبب معلن بل تعدى الأمر ذلك بالتضييق على دور النشر وغياب الدعم المالي أو حتى اللوجيستي لتلك الدور الزائرة ما جعل من زيارتها للخرطوم خسارة لا تستحق تلك المخاطرة فلا الأوضاع الاقتصادية المتدنية تسمح للزوار المرهقين بثقل المعيشة بتعويضهم خسارة سفرهم وتكاليفها ولا الحكومة الكارهة للأدب على استعداد لدعم تلك المحافل ليجد القارئ السوداني نفسه معزولاً ويجد الأدب السوداني نفسه محتجباً عن المحافل الأدبية والعالمية والعربية وهو ما أضر به أيما أشد ضرر.

 

الأدب السوداني ولعنة القرية

 

سواء بطريقة مباشرة أو حتى بطريقة غير مباشرة فقد أضرت حملة الحرب الشعثاء على الكتب بالأدب السوداني لكن لعنة القرية كادت تناطح النظام حربه على كل ما ينتج من أنامل أدبية سودانية ليجد الأدب السوداني نفسه عالقاً وسط خرير السواقي وكثبان الرمال وقطاطي ومساكن البدو الرحل أو المزارعين الشغل.

 

الهامش والقرية والرجل السوداني البسيط هي محاور الأدب السوداني القديمة الجديدة تتكرر في ساقية الأدب كما تتكرر في ساقية القرية وإذا ما أردت إضافة شيء من الإثارة فلا بأس بشيء من الجنس هنا حتى ولو كان في غير موضعه فالمهم أن تحشرها حشراً لعل سهام المنع تصيبها فتنتشر انتشار النار في الهشيم أو تلجأ إلى خدعة السياسة ونقد النظام فتصيبها ذات السهام، ونحن هنا لا نعترض على مناقشة الموضوعين بقدر ما نستهدف القالب الجاهز للأدب السوداني بعيداً عن أنواع الأدب الأخرى التي ينعم بها العالم.

 

برغم ما تشهده الساحة السودانية من خواء مخجل ومزعج في ذات الوقت لم تخل الساحة السودانية من عدد من النماذج المشرفة للأدب السوداني التي استطاعت بالخروج به من لعنة القرية

لا أثر لأدب الرعب ولا دليل على وجود محاولات لصياغة أدب الخيال العلمي ولا أمل في رؤية شيء من أدب الإثارة والتشويق أو الجاسوسية لا رومانسية بعيداً عن أزقة القرية أمل في رؤية ديستوبيا سودانية بكل ما شهده السودان من مآسي لو وزعت على بقاع الأرض لكفتهم وفاضت ولا أدب ساخراً إلا في بعض الصحف التي سرعان ما هوجمت وصودرت وطورد أصحابها وكتابها لما تحتويه من نقد لاذع وحكمة سياسية مبطنة يصاحبه غياب تام للأدب النفسي برغم ما تعج به سطور الحكاوي وتحتضنه مفارش العنابر وفوق ذلك لا نقد أدبياً ولا حصحصة أكاديمية تناقش الظاهرة وتحلل معطياتها ليجد الأدب السوداني نفسه حبيس صورة نمطية وأسطورة برغم ما أفادت الأدب السوداني بقدر ما أضرت به تدعى لعنة موسم الهجرة إلى الشمال.

 

جيل جديد يحاول

الأزمة والشح الأدبي وعدم وجود أنموذج شبابي حقيقي قادت إلى ظهور جيل جديد من الكتاب خلال الأعوام القليلة الماضية لكنها جاءت شحيحة المحتوى ضعيفة اللغة ركيكة الحبكة في تجسيد للأزمة التي يعانيها الأدب السوداني قسرا أو سهوا، فلا محافل لتشجعهم ولا جوائز لتحفزهم ولا ورش لتصقل مهاراتهم لتشهد الساحة السودانية خواء فظيعاً جعل من الساحة الأدبية السودانية مرتعاً لبعض الروايات التي انتقلت من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى صفحات الكتب نتاج حملة من التصفيق والتهليل المضلل حتى ظن البعض في عدد حالات الإعجاب علامة جودة تخوله لنشر خواطره الشخصية بين دفتي كتاب بينما يحاول حشر حبكة روائية في سطورها دون معرفة بأساسيات الرواية ومكوناتها حتى.

 

نور وسط الظلام

برغم ما تشهده الساحة السودانية من خواء مخجل ومزعج في ذات الوقت لم تخل الساحة السودانية من عدد من النماذج المشرفة للأدب السوداني التي استطاعت بالخروج به من لعنة القرية أو على أقل تقدير بعث الحياة في تلك القرية من جديد مستخدماً أسلوبه الخاص وما انعكس إيجاباً على ما يقدمه بل وقاد أدبه إلى مصاف المحافل العالمية، تجربتان مميزتان عكسهما الكاتبان أمير تاج السر والذي وللمفارقة الطريفة يرتبط بحالة قرابة مع الأديب الراحل الطيب صالح صاحب موسم الهجرة إلى الشمال نفسها ولكنه استطاع ابتكار أسلوبه الخاص وفرض لونه الأدبي ليصبح اسمه معتاداً على ساحة الجوائز العربية كالبوكر والجائزة العالمية للرواية العربية وجائزة كتارا التي فاز بها عام 2015.

 

يشاركه في ذلك الروائي الشاب حمور زيادة الذي شكلت أعماله هو الآخر نقلة نوعية في الأدب السوداني وهو ما جسده فوز روايته شوق الدرويش بجائزة نجيب محفوظ وتحولت معها أحد قصص مجموعة القصصية النوم عند قدمي الجبل إلى عمل سينمائي حصد جائزة البندقية السينمائي وجائزة الجونة وقرطاج، لتثبت تجربتهما الروائية ما يمكن أن يصل إليه الأدب السوداني متى ما خرج من الصورة النمطية التي عكف عليها مستلهماً تجربته الخاصة فهل يشهد السودان ثورة على الصعيد الأدبي كذلك تدك أركان نظام أدبي متهالك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.