شعار قسم مدونات

القهوة انعكاس لذوق الفرد أم انعكاس لثقافة المجتمع؟

blogs قهوة

لطالما تغنى محبيها بسمارها أو لعلها اللون الغامق الوحيد الذي لا يختلف على حبه اثنان بعيداً عن دهاليز الفلسفة وتقسيمات المجتمع، لكن ما يميزها أكثر رشفة منها صباحاً كفيلة بنقل التائهين من عالم النوم في ساعات الصباح لعالم الوعي. تلك المحبة المفرطة من قبل الملايين جعلها تهيمن على ثاني تجارة في الكوكب بعد النفط.

 

فالقهوة التي نعرفها اليوم لها ألاف الأنواع والأصناف المختلفة حول العالم. فهي لدى البعض تتعدى كونها مشروب صباحي أو مكافئة بعد عمل يوم شاق. يشربه البعض ليحصلوا على قليل من النشاط. لا بل تمثل أبعد من ذلك بكثير فالبعض يتبع طقوسه الخاصة في احتساء القهوة من خلال مزجها بجمالية مكان أو ذكريات ليهرب من ضجيج الواقع حتى أن البعض يربطها بطقوس التصوف للدخول لعالم النشوة، صحيح أنها لم ترتبط دينيا بطائفة أو مذهب فلسفي واضح لكن بدايتها كانت على يد مؤسس الفرقة الشاذلية أبو بكر الشاذلي والتي سرعان ما انتشرت في المجالس الصوفية باسم خمرة الصالحين. لأن معنى كلمة القهوة في اللغة العربية هو أحد أنواع النبيذ.

 

أيضاً القهوة لم تقتصر على أمزجة البشر أو اقتصاد الدول بل شكلت العديد من الروابط الاجتماعية العميقة وسرعان ما خرجت من عباءة التصوف لتدخل مجالس العرب حتى أصبحت المشروب المقدس لمجالسهم ورمزا لهم، فمجالس العرب في تلك الحقبة القرن (الخامس عشر) كانت تشمل جميع جوانب الحياة من مجالس العلم وتجمع لأفراد القبيلة للنقاش بمشاكلهم من صلح ومأتم.. ولشدة حبهم لها نظموا الأشعار باسمها فمثلا يقول المولى أحمد بن شاهين الشامي:

  

وقهوة كالعنبر السحيق

سوداء مثل مقلة المعشوق

أتت كمسك فائح فتيق

شبهتها في الطعم كالرحيق

تدنى الصديق من هوى الصديق

وتربط الود مع الرفيق.

فلا عدمت مزجها بريقي

  

حتى قصائد نزار قباني الذي اشتهر بقصائد العشق لم تخلو قصائده من مزج الحب بالقهوة: نزار قباني: عندما أشرب القهوة معك أشعر أن شجرة البن الأولى زرعت من أجلنا، أما محمود درويش فقصائده التي تتناول القهوة تأخذ منحى مختلف أخر فهو يمزج عشق القهوة باشتياقه لأرض فلسطين من خلال قصيدته: أحن لخبز أمي وقهوة أمي.

  

undefined

  

وفي قصيدة أخرى يصنف شاربين القهوة حسب انتمائهم الاجتماع ويقول: ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة ‏وذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مرتبا، وثمة قهوة لها مذاق الخروب ذلك يعني أن صاحب البيت بخيل وثمة قهوة ‏لها رائحة العطر ذلك يعني أن السيدة شديدة الاهتمام بمظاهر الأشياء، وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم ذلك ‏يعني أن صاحبها يساري طفولي، وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن، ذلك يعني أن ‏صاحبها يميني متطرف، وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة.

 

هل من الممكن أن تعكس القهوة انتمائنا؟

لا يوجد قانون ينظم شرب القهوة ويربطها بمراجع اجتماعية لتصنف الأشخاص حسب شربهم للقهوة، لكن شرب القهوة طقس اجتماعي يتأثر بالمجتمع بشكل عام وبشخصية الفرد بشكل خاص، لأن الشخصية والسلوك هي ما يميز الأفراد عن بعضهم. على سبيل المثال: طريقتك لاحتساء القهوة ليست مثل طريقة صديقك أو أخيك أو أي أحد لأنها تخضع لذوق الأفراد وشخصيتهم.

 

لكن بنفس الوقت لا يمكننا القول إنه لا يوجد ممارسات أو طقوس مشتركة في شرب القهوة توحد الأفراد حولها. لترسم شخصية المجتمع بشكله الواضح، بمثال أوضح: لا يمكن القول إن جميع المواطنين السوريين يشربون القهوة بنفس طريقة التحضير والتناول، لكن يمكننا القول إن هنالك عادات وتقاليد تخص كل منطقة دون سواها.

 

مثلاً: عند أهل الساحل السوري ليس محبب شرب القهوة مع هال أو سكر فهي في اعتقادهم تشرب سادة لتظهر طعمتها بشكل واضح فالسكر يقتل طعم القهوة على حسب زعمهم، ليس هذا السبب فقط، بحال طلبت سكر مع القهوة سوف ينظر أليك بشكل سلبي جداً وكلما أكثرت سكر في فنجانك سوف تكون شخص ليس متحضر بشكل كاف، أما بعض القرى في محافظة إدلب لا تزال تحتفظ ببعض العادات القديمة في شرب القهوة مثلا أذا تقدم شاب ليطلب يد فتاة وأعجبته تلك الفتاة سوف يضع مبلغاً من المال تحت فنجان القهوة.

   undefined

  

لكن عند عشائر البدو في سوريا ففنجان القهوة له أجوائه الخاصة التي تختلف جذرياً عن باقي مناطق سوريا نتيجة الارتباط الوثيق بين القهوة والثقافة البدوية. فصاحب البيت يعرف من دله (الدلة هي الوعاء المخصص لغلي القهوة) وكلما كانت تلك الدلة ثمينة وكبيرة كانت دلالة على أن صاحب المضافة له وزنه الكبير بين العشيرة وهو شخص كريم. فالدلة تحدد الطبقة الاجتماعية التي يقتنيها صاحبها.

 

أيضا من العادات وهو بحال كان لك طلب عند صاحب المضافة فأنك تضع الفنجان أرضاً بطريقة لائقة وصاحب المضافة سيفهم أنه لديك مطلب عنده وبدوره سينفذ هذا المطلب لأن من عادات العرب ألا يرد الضيف خائبا، ومن المعاير الأخرى التي تلتزم بها بعض المناطق السورية الأخرى ألا يقدم فنجان القهوة ممتلئ أو ناقص بشكل كبير لأن امتلاء الفنجان يدل على أنه ليس مرحب بك بالمنزل وتقديم فنجان القوة ناقص يدل بخل صاحب المنزل، كما هنالك عادة لها جذور عثمانية وهي تقديم فنجان القهوة مع كوب ماء فإذا شرب الضيف كوب الماء ذلك يعني أنه جائع ويجب عليك تقديم الطعام للضيف. صحيح أن هذه العادة تغيرت مع الوقت لكنها كانت بهذا المعنى سابقا.

  

خلاصة القول مهما تعددت طرق شرب وتقديم القهوة لا يمكن توصيفه بأنه معيار بعينه لتحديد الطبقة الاجتماعية بشكل دقيق لكن ذلك لا ينفي أنها معيار لدى بعض الثقافات. ومن ناحية أخرى فالقهوة لا تخضع لمعاير وضغوط العادات الاجتماعية الضيقة فهي ترتبط بعادات الفرد ومزاجه أو كما يقول محمود درويش: لا قهوة تشبه قهوة أخرى لكل بيت قهوته ولكل يد قهوتها لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.