شعار قسم مدونات

كيف يمكن إصلاح ما أفسده العسكر؟

blogs عبد الفتاح السيسي

تلقى صاحب إحدى شركات المقاولات المصرية، خطابًا من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، يزعم أن شركته لا تتبع اللوائح، وسوف يتم خصم مبلغا ضخما من مستحقاتها لدي القوات المسلحة. ولتسوية المشكلة أرسل محاميه ليلتقي باللواء (أ)، مدير المشروعات بالهيئة، وبعد شد وجذب، سأله المحامي مباشرة: كم تريد؟ فرد اللواء (أ): مليون جنيه. اتصل المحامي برئيسه وأخبره أن اللواء (أ) يريد 2 مليون جنيه. فقام صاحب الشركة بتحويل المبلغ إلى حساب المحامي، فأخذ لنفسه مليونا من الجنيهات، وأعطي المليون الآخر إلى اللواء (أ)، وبينما يعطيه المال قال: "لقد واجهت متاعب بسببك، ووبخني صاحب الشركة لضخامة المبلغ، لكنني أقنعته في النهاية." ابتسم اللواء (أ)، وأعطاه مئة ألف جنيه، كعموله.

   

الآن من هو الأكثر فسادا في هذه الحالة؟

هل هو صاحب الشركة، الذي يفضل إعطاء أموال ضخمة كرشاوي.

أم أن اللواء (أ) الذي كتب تقرير المخالفات، وهو يعلم أن صاحب الشركة يفضل أن يدفع بدلاً من خسارة أعماله مع الجيش؟

أم هو المحامي الذي سهل الصفقة وكسب من الطرفين في النهاية؟

أم أنت، أيها القارئ، لأنك ابتسمت وقلت إن هذه طريقة عادية ومنتشرة في ممارسة الأعمال التجارية؟

أعتقد أن واحدة من أسوأ الأمور حول الفساد، هي عندما تُشرعنه السلطة الحاكمة.

  

في سبتمبر 2012 وعقب تعيينه رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات، قال هشام جنينة إن "الرئيس "مرسي" أصدر إليه تعليمات بأن يبدأ الجهاز في الرقابة على مصروفات كل الأجهزة العليا للدولة، وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، والقوات المسلحة، وجهاز المخابرات، ووزارة الداخلية". وبكل سهولة، اكتشف "جنينة" عددا ضخما من وقائع الفساد في أجهزة ومؤسسات الدولة، وقدم بلاغا إلى النائب العام، عن تجاوزات مالية وإدارية في أوجه إنفاق هيئات كبري مثل هيئة قناة السويس، وأن هناك عدد من المسئولين في الهيئات الحكومية تصل رواتبهم إلى ملايين الجنيهات.

 

بعد الانقلاب تلقي "السيسي" 40 مليار دولار من الإمارات والسعودية، ووضع 10 مليارات فقط في خزينة الدولة، ولم يعلم أحد حتى الآن مصير باقي المبلغ، حيث رفض الجيش أي رقابة عليها. وكشف تقرير لصحيفة "الجارديان" البريطانية، يوم 30 أكتوبر 2015، النقاب عن أن الفساد "ينخر في كيان المؤسسة العسكرية المصرية"، وأن ازدياد الإنفاق العسكري "المبهم" ليس بعيدا عن الفساد "، وتبعه سقوط مصر في تصنيف التقرير للدول التي تواجه مخاطر الفساد في قطاع الدفاع، حيث جاءت ضمن تصنيف "حرج"، وهو التصنيف الأسوأ في المؤشر.

  

   

لم يهتز الجيش وسيطر على ما يصل إلى 70 بالمائة من الاقتصاد المصري. وأصبح هناك ضابط عسكري مسئول عن كل سلطة في الحكومة، وأصبح الجنرالات هم المتحكمين في الاقتصاد المصري كله، وتوسعت سيطرة الشركات العسكرية لتتخلل كل جانب. كان الهدف هو إنهاء حقبة اتسمت بمحاولة إخضاع مؤسسات الدولة العميقة والفساد للتحقيق.

 

ما نوع البيئة التي ينتشر فيها الفساد؟

يولد الفساد في مجتمع عندما يفشل مواطنوه في الاعتقاد بأن الأمة هي ملكية مشتركة للجميع. الفساد واحد من أعظم الشرور التي تهز العمود الفقري لأي مجتمع. فما بالك لو كانت لديه سلطة ومؤسسة تمتلك الأسلحة من ناحية، وشعب مغلوب على أمره، ومملوء بالمنافقين والفاسدين، من ناحية أخرى. إنه يأكل المجتمع، مثل الصدأ المخفي بجسر حديدي، والجسر لا يسقط على الفور ولكن عندما يحدث، فإنه لا يمكن إصلاحه. يحدث ذلك على أصغر مستوى، حيث يحصل المصري على بضعة جنيهات ليضع صوته داخل صندوق الانتخاب، إلى أكبر مسؤول يحصل على ملايين الجنيهات من قوت المصريين، الذين وثقوا به لإدارة أعمالهم.

 

وبغض النظر عن التعاريف التي نستخدمها أكاديميًا، يمكن تلخيص الفساد باعتباره إساءة استخدام للسلطة، حيث يتصرف الأشخاص الذين يشغلون مناصب في السلطة بلا أمانة، لاكتساب ميزة شخصية لأنفسهم، أو لأقرانهم وأصدقائهم وزملائهم. ومن السهل جدًا تحديد الأنظمة الفاسدة، حيث أن الحياة بالنسبة للناس العاديين، بدون الروابط الاجتماعية والسياسية الصحيحة، أمر صعب دائمًا. إلى حد بعيد، فإن البلدان الفاسدة عادة ما تكون فقيرة، وشعبها الفقير دائمًا مغلوب على أمره ويخسر على طول الخط.

 

تأتي مصر كمثال جيد على البلد الفاسد، حيث تتولى النخبة المسؤولية، وحيث تشكل الخلفيات العسكرية، طبقة فاسدة، تتركز السلطة في أيديهم. فإذا أردت فعل أي شيء في مصر، فعليك أن تكون على اتصال بهذه الطبقة الاجتماعية. باختصار، إذا أردت فهم الفساد عامة، والسياسي خاصة، ما عليك سوى مراقبة ما يحدث في مصر.

 

في عام 2015، وقبل أن تعلن "لجنة تقصي الحقائق" التي شكلها الرئيس المصري "السيسي" لبحث ما أعلنه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات "هشام جنينه" أن حجم الفساد في مصر بلغ 600 مليار جنيه، تقريرها، الذي زعمت فيه أنه لا يوجد فساد، وقعت عدة تطورات لافتة:

أولا: استبقت صحف وفضائيات موالية للانقلاب صدور تقرير اللجنة لإدانة جنينة، واتهمته بتشويه مصر.

 

ثانيا: في نفس الشهر، أصدر "السيسي" قانونا يسمح له بإعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، وتبعه بقرار جمهوري بتعيين نائبين لجنينة، دون إبلاغه، أحدهما "هشام بدوي" مساعد وزير العدل "أحمد الزند" ومحامي نيابة أمن الدولة العليا الأسبق، و"منى توحيد"، وهي من قيادات الجهاز، في إشارة لقرب التخلص من جنينة، الذي رد علنًا: "لا يمكن عزلي من منصبي، والضجة المثارة وراءها إعلاميون موالون لرؤوس الفساد".

 

ثالثا: بدأت حملة ضد جنينه بأن له ولاء لجماعة الإخوان المسلمين، وله اتصالات بحركة حماس، ويمدها بمعلومات حيوية عن مصر. وتزامنت تلك الحملة مع نظر المحكمة، دعوى عزله"جنينه"، ببلاغ من المحاميين "طارق محمود"، و"سمير صبري"، يتهمانه بنشر أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالأمن والاقتصاد القومي. ولوحظ أن المحكمة أجلت القضية شهوراً، حتى يمكنها ضم تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها "السيسي"، وكأنها كانت تعلم أن التقرير سوف يدين "جنينه".

 

وبالفعل، وجه تقرير لجنة تقصي الحقائق لجنينه أربعة اتهامات بدلا من أن يعترف بوجود فساد، هي:

أولاً: التضليل والتضخيم في حجم وقيمة الفساد.

ثانيًا: فقدان المصداقية بترتيب وتجميع مفتعل لوقائع حدثت من سنوات وإثبات استمرارها كذريعة.

ثالثًا: إغفال ما تم اتخاذه من قرارات حيال ملاحظات سبق إثباتها في تقارير ماضية تم اتخاذ إجراءات بشأنها إما بالحفظ أو الإحالة للمحاكمات.

رابعًا: إساءة توظيف الأرقام والسياسات مما يظهر الإيجابيات بشكل سلبي.

وتمت إقالة جنينة، واعتقاله بعد ذلك.

   

    

ماهي أفضل طرق تحديد الفساد؟

أعد بنك التنمية الآسيوي القائمة الشاملة التالية لما يشكل سلوكًا فاسدًا، ويمكن اعتباره نقطة الانطلاق لتحديد أشكال الفساد المختلفة:

1. تصميم أو اختيار مشاريع غير اقتصادية، تحركها العمولات المالية.

2. الاحتيال في المشتريات، بما في ذلك التواطؤ أو اختيار المقاولين والموردين والاستشاريين بطريقة غير شفافة.

3. دفع الأموال غير المشروع للمسؤولين لتسهيل الوصول إلى السلع والخدمات والتصاريح والتراخيص والمعلومات التي لا يحق للجمهور الحصول عليها، أو حرمان الجمهور من الوصول إلى السلع والخدمات التي يحق لها قانونيًا.

4. المدفوعات غير المشروعة لمنع تطبيق القواعد واللوائح بطريقة عادلة ومتسقة.

5. المدفوعات إلى المسؤولين لتعزيز أو الحفاظ على إمكانية الوصول إلى الأسواق الاحتكارية أو احتكار القلة في غياب مبررات اقتصادية مقنعة.

6. اختلاس معلومات سرية عن الوضع المالي للشركات التي من شأنها أن تمنع المستثمرين المحتملين من تقييم قيمتها بدقة، مثل الفشل في الكشف عن الالتزامات الطارئة الكبيرة أو التقليل من قيمة الأصول في مؤسسة من المقرر خصخصتها.

7. سرقة أو اختلاس الممتلكات العامة والأموال.

8. بيع المناصب والترقيات والمحسوبيات، أو غيرها من الإجراءات التي تقوض إنشاء الخدمة المدنية المهنية والجدارة.

9. الابتزاز وإساءة استخدام المنصب العام، لخدمات شخصية.

10. عرقلة العدالة والتدخل في واجبات الوكالات المكلفة باكتشاف السلوك غير المشروع والتحقيق فيه ومقاضاته.

  

يزدهر الفساد حين تكون الضوابط المؤسسية على السلطة مفقودة، وحين يكون صنع القرار معتمًا، وحين يكون المجتمع المدني غير قادر على التمكين. وكل هذا توفر بمصر بعد الانقلاب العسكري. لذلك من المهم إنشاء آليات تحكم وعقبات نظامية لمنع الناس من استغلال سلطتهم. ولنعترف بأن الفساد الذي غرقت فيه مصر خلال العقود الستة الماضية لا مثيل له. فهل يخوض الشعب المصري هذه المعركة ضد سارقيه، أم يظل غارقا في سباته؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.