شعار قسم مدونات

نظرية المؤامرة.. كيف ساهمت في تأخر العرب والمسلمين؟

blogs مقهى

منذ استقلال المنطقة العربية عن الاستعمار العثماني عام 1916م ثم الوقوع تحت نير الاستعمار الأوروبي شاعت في أوساط العامة والمثقفين على حد السواء نظرية المؤامرة، هذه النظرية وجدت لها البيئة الخصبة في البلدان العربية في ظل العوامل الموضوعية والذاتية والسياقات التاريخية. وبعد تحرر الأقطار العربية من الاستعمار الغربي وقعت في ظل حكم أنظمة شمولية استبدادية راق لها تصدير أزماتها المتعاقبة وإلقاء اللوم بشكل دائم على المؤامرة الغربية.

اليوم وبعد عقود من الإفقار الثقافي والتجهيل المتعمد الذي تعرض له الجمهور العربي أصبح مصطلح المؤامرة جزء لا يتجزأ من المنظومة الفكرية والعقائدية في الدول العربية. ناهيك عن صيرورته أسلوب تفكير فردي يلجأ إليه المواطن العربي عند كل فشل يصطدم به، فلا أسهل من القول بأن كل عيب ونقيصة بنا هي من صنع الغير. وإن كان فكر المؤامرة نتيجة طبيعية لعقود الاستبداد المتعاقبة إلا أنه أصبح بالفعل جزء من التركيب النفسي للإنسان العربي، فالخوف المتغلغل في صدور الجماهير العربية والذي أصبح عيباً نفسياً جمعياً غدا بدوره عاملاً مغذيا لفكر المؤامرة. حيث أن العرب لا يملكون الشجاعة الكافية للاعتراف بمشاكلهم والمكاشفة لذواتهم ويجدون في إلقاء اللوم على الغير الطريق الأسهل والأقل كلفة لتبرير فشلهم المزمن.

إنَّ ما يحول دون تقدم الدول العربية في الواقع ليست المؤامرة المزعومة كما يعتقد الكثر من العرب، وإنما ما يحول دون التقدم هو عدم توفر مقومات النهوض لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية

وبالعودة إلى الحياة العامة في المنطقة العربية نجد هذا التفكير حجر الأساس في كل الأقطاب السياسية العامة. ففي سورية على سبيل المثال يسوق النظام للمؤامرة الكونية على سورية ويعتبرها السبب الوحيد لكل الدمار الذي أصاب البلاد، أما المعارضة في المقابل تتحدث عن المؤامرة لإفشال الثورة وإجهاض تطلعات الشعب السوري في الحياة الكريمة والحرة. والمنوال يستمر على ذلك في كافة الدول العربية بحيث تتعدد الجهات المتآمرة فالجميع متآمر من روسيا وإيران إلى أوروبا وصولاً إلى الولايات المتحدة والقائمة تطول، كما وتتعدد مواضيع المؤامرة فهناك المؤامرة على الإسلام وهناك المؤامرة على القومية والوطنية والممانعة وغيرها الكثير. لكن قلة منّا فكرت في مشاكلنا الذاتية كسبب للحالة المزرية التي نحن عليها اليوم.

لست هنا في صدد نفي المؤامرة بأي شكل من أشكالها وقد تكون موجودة على كافة الصعد المذكورة آنفاً. فالمؤامرة جزء من تكوين الوجود الإنساني على الأرض، وطالما كان هناك تضارب للمصالح وتباين في وجهات النظر فإن المؤامرة ستحضر بتجليات مختلفة. ولست أفشي سراً عندما أقول بأنه ليس للولايات المتحدة من مصلحة في تقدم واستقلال الشعوب الأخرى لأن ذلك سينهي هيمنتها وسيضيّق من مكاسبها حول العالم. ولعل هذا هو حال جميع الإمبراطوريات الكبرى عبر العصور المختلفة. وليس استثناء من القاعدة حال الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة في فترة ازدهارها. وبالنظر إلى ندرة ومحدودية الموارد على كوكب الأرض فإن الصراع سيزداد على هذه المصادر المحدودة، والمؤامرة بطبيعتها هي أحد أشكال هذا الصراع في الماضي والحاضر والمستقبل. أضف إلى ذلك مناخ الإيديولوجيات التي شهدت تضخماً كميّاً ونوعيّاً منذ نهاية القرن التاسع عشر، والإعلام الذي تحول إلى أحد مسببات الاستقطاب الرئيسية في الوقت الراهن.

في جميع الأحوال ومهما كان حجم المؤامرة وزمانها ومكانها فإنها ليست السبب لتخلف أمة ما أو نهوضها، بل إني لست أبالغ إذ أقول بأنها ليست أحد الأسباب. حيث أن تقدم أي مجموعة بشرية مرتبط بالمقام الأول بالعوامل الذاتية الكامنة في هذه الجماعة أو تلك. هذه العوامل الذاتية تتمثل بمقدار الوعي والثقافة لدى الأمة والنضج الفكري والاجتماعي لدى الأفراد، ناهيك عن إرادة النهوض لديهم. ولعل هذه العوامل قادرة بمعزل عن العوامل الأخرى على النهوض بالأمة من تحت الركام. حتى العوامل الموضوعية من ثروة ومساحة وموقع تصبح غير ذات أهمية تذكر في حال غياب العوامل الذاتية. بل إننا في صدد أمثلة حيّة في قدرة الأمم على النهوض حتى بغياب أية عوامل موضوعية مساعدة. ومن تلك الأمثلة اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فألمانيا على سبيل المثال وجدت نفسها بعد الحرب مدمّرة بالكامل وفرض عليها الحلفاء المنتصرون واقعاً مأساوياً من تقسيم ومديونية ضخمة فاقت مئات مليارات الدولارات وصولاً إلى قيود اقتصادية وعسكرية تقف عائقاً موضوعياً في وجه أي نمو أو تقدم منشود. وبالرغم من كل ذلك فإن الشعب الألماني بفضل الوعي وإرادة النهوض استطاع نفض غبار الحرب عنه وتحطيم القيود التي وضعت في وجهه من أجل المضي قدماً وتبوأ المكانة التي يستحقها على قمة الهرم العلمي والاقتصادي والسياسي في العالم. وفي المقابل نجد منطقة كالمنطقة العربية تمتلك من المعاملات الموضوعية ما يؤهلها لسيادة الأرض من موقع استراتيجي فريد ومساحة شاسعة وثروات هائلة متنوعة نجد تلك المنطقة تتذيل القائمة في أبرز مؤشرات التقدم العالمية.

إنَّ ما يحول دون تقدم الدول العربية في الواقع ليست المؤامرة المزعومة كما يعتقد الكثر من العرب، وإنما ما يحول دون التقدم هو عدم توفر مقومات النهوض لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية. فالتخلف والجهل ما زال وباءً مانعاً لأي تقدم مرتجى على المدى المنظور، والتخلف بالمعنى المقصود هنا لاتنفيه نسب التعليم المضطردة في الارتفاع . إذ أنَّ ذلك التخلف يعتري في المقام الأول الثقافة العامّة على مستوى الأفراد والمجتمع. فالمسؤولية الاجتماعية هو مفهوم غائب عن ذهنيّة المواطن العربي والموقف من المفاهيم الجوهرية في الحياة العامة كالسلطة والدولة والشعب ما زال يرتسم بصيغته البدائية التي تجاوزتها كل دول العالم المتقدم، والأمر هنا سيّان بين ملكية وجمهورية، ونظرة الفرد العربي إلى مؤسسة الدولة مازالت قاصرة في حدود العقد الاجتماعي بصيغته الأولى عند توماس هوبز. وما زال المواطن العربي يلقي بكاهل مشاكله على السلطة بالرغم من أنها صنيعته في المقام الأول أو على الأقل صنيعة سلبيته وانكفائه عن تحمل المسؤولية تجاه القضايا العامة. والنتيجة هي الدوران في حلقة مفرغة من المؤامرات غير المنتهية تبدأ بين الأفراد فيما بينهم وثم السلطة والمؤسسات العامة وصولاً إلى الدول الغربية ثم الماسونية العالمية دون أن تجد هذه الحلقة نهاية لها.

إن ما نحتاجه في الوقت الراهن هو رمي فكر المؤامرة وراء ظهورنا والعمل على إيجاد آليات للنهوض بذواتنا من مستنقع الجهل والتخلف الثقافي، بحيث أننا معنيون في المقام الأول بتنشئة جيل مفعم بقيم المسؤولية الاجتماعية والثقافة بالمفاهيم العامة الضرورية للنهوض بأمتنا من واقعها المزري وفتح أفق مستقبلية جديدة يكون عمادها القفز بمجتمعاتنا من المفاهيم البالية في الموقف من المحددات العامة للعلاقة بين الفرد والدولة بالعموم، باعتبار ذلك مقدمة لازمة لا مهرب منها على طريق التنشئة والنهوض. فالسلطة في الدول العربية لا مصلحة لها في تغيير تلك المفاهيم وهي لاتريد تغييرها أساساً وإنما يقع على عاتقنا كأفراد البدء بهذه العملية. ولكن السؤال الأهم يبقى.. هل لدى نخبنا النية والإرادة للعمل على هذا الطريق أم أن نخبويتهم قد تتضرر من ذلك..؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.