شعار قسم مدونات

زائر الفجر.. فيلم ماتَ مخرجه حزناً عليه!

BLOGS زائر الفجر

يحزن الإنسان بطبعه عندما يفقد إنساناً أو شيئا ذا قيمة، يستعرُ هذا الحزن في قلبه قبل أن تُهوّن من مرارته الأيام، فينكشف شيئا فشيئا إلى أن يتلاشى بين متاهات الحياة، غير أن هناك من الحزن ما لا يهدأ وقعه في النفوس عندما يكون الحزين هو المحزون عليه في نفس الآن، أي عندما يفقد الإنسان ذاته في اللحظة التي يحتضر إبداعُه أمام أعينه وهو ما يزال على قيد الحياة. بلغ حزن المخرج المصري شكري ممدوح على فيلمه زائر الفجر حدّ الموت، بعدما منعت السلطات المصرية في عهد السادات تداول فيلمه بحجة ضمّه لمشاهد وحوارات تُهاجم السلطة وتنتقد الوضع العام بشكل مباشر، في حين تعرّض ممثلوه أيضا لنوع من التحذير والتضييق من جانب الأجهزة الأمنية وعلى رأسهم منتجة الفيلم وبطلته الممثلة ماجدة الخطيب.

مُنِع الفيلم من دور العرض رغم كل المحاولات التي استجدت الرئيس السادات نفسه لإجازته، لكن الرفض كان هو العنوان الأبرز الذي خلّف ضجة كبرى في الوسط الفني المصري آنذاك، هذا الرفض أدى بمخرج الفيلم ممدوح شكري إلى الدخول في حالة اكتئاب حادّة ألزمته الفراش، وتطورت حالته إلى مرض غامض أنهى حياته في ديسمبر 1973 داخل مستشفى الحميات. شكري ممدوح هو مخرج شاب وممثل مصري من مواليد محافظة المنيا عام 1939، حصل على دبلوم المعهد العالي للسينما قسم الإخراج، عمل في بداية حياته الفنية في التمثيل فلعب أدواراً صغيرة في أفلام "البنات والصيف" "الخطايا" و"حلاق السيدات" قبل أن يتوجه إلى ميدان الإخراج، ليُسجل في رصيده أربعة أفلام روائية طويلة وعدد من الأفلام التسجيلية.

لم يُسمح بعرض الفيلم إلا بعد الرحيل المأساوي لمخرجه ممدوح شكري، وتم حذف أكثر من 20 مشهدا رأت الرقابة أنها تُوجّه نقدا لاذعا للنظام السياسي، ورغم ذلك فإن الفيلم لا يزال ممنوعا من العرض على التلفزيون المصري إلى حد الآن

الفيلم يندرج ضمن نوعية الأفلام التي نبشت في الأسباب الحقيقية وراء هزيمة 67 كفيلم "الكرنك" لنجيب محفوظ و"احنا بتوع الأتبيس" لعادل إمام وإن كان زائر الفجر الحالة السينمائية السباقة في هذا الشأن، إذ أوضح الفيلم أن هذه الأسباب لا تحيد عن نطاق الفساد المستشري آنذاك في الأجهزة الأمنية المصرية، يقابله فساد سياسي وقهر اجتماعي واقتصادي واعتقالات تعسفية طالت رموز المعارضة، وكانت تُنفّذ معظم هذه الاعتقالات قُبيْل الفجر وهي أهدأ فترة في الليل، فسُمّيت ب"زائر الفجر"، وهذا ما يلخصه المشهد الذي قال فيه عزت العليلي بمرارة لماجدة الخطيب "أنا عرفت دلوأتي بس.. ليه إحنا انهزمنا سنة 67".

كانت الجماهير المصرية والعربية عموما في ذاك الوقت تحاول محو آثار الهزيمة المُرة التي تكبدها العرب من إسرائيل، وكانت تسعى لتشخيص الأزمة والغوص في تفسير حالة التضعضع العربي محاولة تفادي الأخطاء القاتلة في أية مواجهة محتملة مع العدو الإسرائيلي، هذه الانتفاضة الجماهيرية والطلابية انعكست بشكل كبير على المُنتج الفني والإبداعي الذي شكل متنفسا وحيدا لتفريغ مشاعر الخيبة والانكسار، وهذا ما أدى إلى تحرره من جميع القيود التي من شأنها أن تقوض صرخته الرافضة.

يبدأ الفيلم بمشهد العثور على جثة الصحفية نادية الشريف (ماجدة الخطيب) في إحدى الشقق، وهو مشهد رمزي يصور الموت الإكلينيكي الذي تعرض له الجسد العربي بعد النكسة، والأوضاع الاجتماعية المرافقة لهذه الفترة الحساسة، لتبدأ سلسلة التحقيقات من وكيل النيابة حسن الوكيل (عزت العليلي) حول أسباب الوفاة، إلا أنه تعرض لضغوطات كبيرة من جهات أمنية وسيادية عليا تحثه على غلق القضية والتوقف عن النبش في خلفيات موت الصحفية، والتي كانت في الأصل مناضلة سياسية تعرضت لأنواع من التعذيب في سجون عبد الناصر قبل إطلاق سراحها، واتُهِمت بعد جمع شهادات مزيفة من مقربين لها بالفساد الأخلاقي، في محاولة من المخرج تسليط الضوء على مدى سعي السلطات المصرية إلى تشويه صورة المعارضين للنظام الحاكم يومها وضربهم في مقتل بتُهمٍ فاضحة لإرغامهم على التراجع والانصياع، فعاشت تحت ظروف قاسية من الرعب والقلق والشعور الدائم بالمراقبة والتعقّب أدت بها في النهاية إلى فقدان حياتها.

لم يُسمح بعرض الفيلم إلا بعد الرحيل المأساوي لمخرجه ممدوح شكري، وتم حذف أكثر من 20 مشهدا رأت الرقابة أنها تُوجّه نقدا لاذعا للنظام السياسي، ورغم ذلك فإن الفيلم لا يزال ممنوعا من العرض على التلفزيون المصري إلى حد الآن، ولم يتم تكريم ممدوح شكري احتراماً لروحه إلا بعد مرور أربعين سنة على الحادث أي في عام 2014 من قبل مهرجان جمعية الفيلم، ليُعتبرَ فيلمه من الأفلام الفارقة في تاريخ السينما المصرية. وشاءت الأقدار أن تتشابه قصة نادية الشريف بطلة الفيلم مع قصة مخرجه ممدوح شكري، إذ كان القهر المعنوي السبب الرئيسي في وفاتهما، جراء الفساد الذي ضرب جذوره في مصر على جميع المستويات، ليستمر مسلسل الصراع الدائم بين الفن الهادف والسياسة، كاشفا عن تضحيات جسيمة تنتظر المبدع الحقيقي في مستنقع هذا الصراع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.