شعار قسم مدونات

لماذا نجحت سايكس بيكو عند العرب وفشلت في تركيا وإيران؟

blogs خريطة

نعيش هذه الأيام مئويات أحداث مفصلية شكلت الواقع المعاصر الذي لا تزال المنطقة ترزح تحت وطأته، وذلك بداية من الحرب الكبرى الأولى التي انتهت بسقوط الدولة العلية العثمانية واستيلاء الحلفاء المنتصرين على أراضيها العربية، وصولا لمحاولات العرب التأثير في مسار الأحداث عبر سلسلة من الثورات كثورة 1919 في مصر، وثورة العشرين في العراق، وإعلان المملكة السورية في بلاد الشام. 

وفيما تمكن الإيرانيون من الحفاظ على إيرانهم موحدة وتمكن الأتراك من الحفاظ على أناضولهم موحداً، تشظت آسيا العربية التي طمح أمير مكة الشريف حسين العوني لتوحيدها تحت عمامته إلى شرذمة من الدول وُلدت بإعاقات دائمة غير قابلة للعلاج، فاقم أزماتها مزيد من التدخل الخارجي المتدثر بشعارات وعناوين شتى. فالناظر اليوم إلى حال الإقليم يلحظ بجلاء كيف استفاد الترك والإيرانيون من حفاظهم على وحدتهم الجغرافية واستفادوا من الاعتماد على النفس للتحول لقوى صاعدة، وكيف ساعد غياب تلك العوامل وغيرها في تعثر التجربة العربية وتمخضها الى مشاريع دول جلها فاشلة.

إيران كانت مقسمة إلى منطقتي نفوذ -واحدة روسية شمالية وأخرى إنجليزية جنوبية-، مع حكومة شاهانية قاجارية لا تسيطر بالكاد سوى على العاصمة طهران! وكانت روسيا مع نهاية الحرب العالمية الأولى منهمكة في حرب أهلية طاحنة بين الجيش الأبيض والبلاشفة

إن قارنا السياق الذي أدى إلى اختلاف مصائر العرب عن مصير الأتراك والإيرانيين نجد مثلا؛ في حالة الأتراك أن الحركة القومية التركية استندت على الجيش العثماني المنسحب للأناضول زارعا تحصيناته (التي ستصبح حدود تركيا لاحقا) عند عنتاب شمالي حلب لمتابعة المقاومة عام 1918، قبل أن تجبره معطيات الحالة العسكرية على الجبهة الألمانية لإعلان الاستسلام. علما بأن عدداً غير قليل من الضباط العرب العثمانيين كانوا ضمن المنسحبين ثم المقاتلين في حرب الاستقلال التركية، واستمر بعضهم لاحقا في وظائفهم في الجيش الذي صار يسمى بالجيش التركي. إلحاق الهزيمة بجيش متمرس كهذا على رقعة جغرافية وعرة كبيرة كالأناضول أمر يتطلب حشد الحلفاء الكثير من العساكر، وهو ما لم يكن أي من الحلفاء مستعدا للقيام به بعد سنوات الحرب الطويلة.

وأمام ضغط الجنود المطالبين بتسريحهم وعودتهم لديارهم قرر رئيس الوزراء البريطاني المندفع آنذاك -دافيد لويد جورج- الاعتماد على عسكر اليونان للقضاء نهائيا على بقايا السلطنة العثمانية وتقسيم الأناضول، بيد أن هذا الجيش اليوناني هُزِم وفشل في مهمته بسبب أطماع زائدة عن معطيات الواقع. ولعب إلغاء السلطنة عام 1922 -مقدمة لإلغاء الخلافة والتحول لنموذج الدولة القومية- دوراً في تسهيل أمور المفاوض التركي على طاولة لوزان عام 1923، إضافة لإسهام الموقع الجغرافي لتركيا المُتاخم للاتحاد السوفيتي وتقارب الترك والروس سياسياً وعسكرياً حينها لعودة رعب أوروبي قديم من وصول الروس للمياه الدافئة.

أما إيران فكانت مقسمة إلى منطقتي نفوذ -واحدة روسية شمالية وأخرى إنجليزية جنوبية-، مع حكومة شاهانية قاجارية لا تسيطر بالكاد سوى على العاصمة طهران! وفي تلك الأثناء، كانت روسيا مع نهاية الحرب العالمية الأولى منهمكة في حرب أهلية طاحنة بين الجيش الأبيض والبلاشفة. كل تلك المعطيات حفزت الإنجليز لاستغلال الفرصة والتخلص من النفوذ الروسي عبر دعم ضابط طموح في صفوف وحدات القوزاق الإيرانية للإطاحة بالحكومة عام 1921 منصبا نفسه وزيرا للدفاع ثم رئيسا للوزراء، قاضيا سنوات وزارته في قمع التمردات وإخضاع القبائل وفرض السلطة المركزية على الأطراف، قبل أن يعزل الملك أحمد شاه قاجار لينصب هذا الضابط نفسه ملكا لإيران تحت اسم "رضا شاه بهلوي" عام 1925. أي أن بقايا "اللعبة الكبرى" وإرهاصات ما كان سيصبح الحرب الباردة لعبت دورا رئيسا في عدم تفتت إيران.

في حالة عرب آسيا كان ما تبقى من عرب الجيوش العثمانية مبعثرا دون وجود إرادة سياسية خارجية داعمة للوحدة لمصلحة ما. أما الجزيرة العربية كانت مقسمة بين إمارات قبلية يمول بعضها ويرتبط -بعد تفتت السلطنة العثمانية- بمعاهدات سرية وعلنية مع الإنجليز غير الداعمين -على عكس الحالة الإيرانية- لفكرة الوحدة، ونظراً لطرفيتها في تلك المرحلة؛ بقي مستقبل إدارات الجزيرة العربية المحلية في إطار الدولة العربية المنشودة بآسيا العربية مرهونا بما سيحصل في العراق والشام. العراق سقطت حواضره الكبرى بيد الإنجليز خلال سنوات الحرب الكبرى بالفعل، لتنحصر مخرجات ثورة العشرين الشرسة؛ في تغيير نوع الإحتلال من مباشر إلى آخر غير مباشر بإعلان مملكة عراقية هاشمية تحت انتداب إنجليزي.. مملكة تضم ولايتي بغداد والبصرة قبل إضافة ولاية الموصل لاحقا.

فرص سوريا الضائعة

أما سوريا الطبيعية فرغم أن إمكاناتها آنذاك تساعد في حصولها على ما هو أفضل إلا أن سرد جانب بسيط مما سبق معركة ميسلون كفيل لمعرفة ما أوصل العرب لحالهم آنذاك وبعده، كان جنوب الشام (فلسطين والأردن) بيد الانجليز، بينما سواحله الشمالية بيد الفرنسيين. وتميزت الحالة العربية هنا عن الحالة التركية والإيرانية والعربية العراقية بوجود أطراف عربية تمتلك شرعية المنتصرين ممثلة بثورة الشريف حسين؛ شرعية مكنت الكثير من العرب الذين حاربوا مع العثمانيين حتى الرمق الأخير من إيجاد مظلة للاستظلال بها عبر الانضمام للشريف فيصل في سوريا الداخلية، ومن بينهم يوسف العظمة الذي عينه الملك فيصل وزيرا للدفاع والذي جهز المقاومة ضد الفرنسيين. وفي كتابه "مرآة الشام" يشرح شقيقه عبد العزيز العظمة فصول الأحداث التي سبقت المعركة -التي يقترب بعضها من فصول الكوميديا السوداء- كأحد أهم أسباب فشل المقاومة السورية وعدم قدرتها على تحقيق نتائج قريبة من أختيها التركية أو العراقية؛ مع تذبذب الإرادة السياسية بين مهادنة ومقاومة دون خطة واضحة.

أما عرب آسيا فلم يتمتعوا بذات الميزات الجيوسياسية، مع فشل زعاماتهم في السير على خطى الأتراك في استغلال مزاج السأم من الحرب في أوساط الحلفاء

فبعد عقد الأمير فيصل اتفاقية فيصل-كليمنصو مع رئيس فرنسا آنذاك معترفا بالانتداب الفرنسي على سوريا، تم رفض الاتفاق بالإجماع بعد عودته لسوريا، ونودي بفيصل ملكاً على المملكة السورية المستقلة، لتعلن التعبئة العامة للدفاع عن المملكة الوليدة. ثم إذا ما جُهز الجيش تلقت حكومة دمشق إنذارا من الجنرال الفرنسي جورو يمهلها يومين لحل الجيش والقبول بالانتداب، وإلا زحف الفرنسيون من بيروت لدمشق. لتذعن الحكومة للإنذار -رغم رفض يوسف العظمة- وتحل الجيش! ثم لما تأكد تقدم الفرنسيين لدمشق بحجج مختلقة رغم تلبية شروط الانذاز، أُمر يوسف العظمة بتجهيز الجيش مجددا بعد ثلاثة أيام من حله، وهو ما رفضه الرجل أول الأمر لعدم كفاية الوقت لإعادة تجميع جيش ثم دخول حرب محكوم عليها بالخسارة تجر على البلاد شروطاً أشد من تلك المتفق عليها في اتفاقية فيصل-كلمنصو، وهو ما كان. والنتيجة تقسيم بلادالشام إلى دويلات عدة بالشكل الذي نعرفه اليوم، بخلاف ما ضُم منها لاحقا للجمهورية التركية والمملكة السعودية.

بعدها نُصب الشريف فيصل ملكا على العراق تحت انتداب بريطاني، وأخوه الشريف عبدالله على إمارة شرق الأردن تحت ذات الإنتداب على أمل توسيع مملكته مستقبلا لتضم بقية الشام وهو ما لم يتسنى تحقيقه رغم محاولاته الحثيثة -باستثناء ضم الضفة الغربية لإمارة شرق الأردن عقب نكبة عام 1948-. أما مملكة الحجاز الهاشمية الداخلة في معاهدات مع بريطانيا -عبر مكتبها في مصر- فسقطت عام 1925 بيد السعوديين المرتبطين بمعاهدات شبيهة مع بريطانيا (عبر مكتبها في الهند المنافس بدوره لمكتب القاهرة). وبذلك زال آخر كيان يحمل شرعية دينية قرشية معتبرة من جهة، وقانونية بصفته ضمن منتصري الحرب على الخلافة العثمانية وحلفائها؛ حرب دخلها القوم مشترطين على الحلفاء توحيد آسيا العربية تحت قيادة زعامتهم، حيث تسمح بنية الكيان بمد الوحدة من الحواضر الكبيرة في الشمال إلى داخل جزيرة العرب، وهو ما لم يحصل.

الخلاصة

– اعتمدت إيران على موقعها على الخارطة الجيوسياسية بين روسيا والإنجليز لتحافظ على وحدتها.
– اعتمد الأتراك على نفس العامل الجيوسياسي، مع الاستعانة بقوة لا يستهان بها وهي بقايا الجيش العثماني.
– أما عرب آسيا فلم يتمتعوا بذات الميزات الجيوسياسية، مع فشل زعاماتهم في السير على خطى الأتراك في استغلال مزاج السأم من الحرب في أوساط الحلفاء، واستخدام بقايا عرب الجيش العثماني لتحقيق شروط أفضل على غرار الأتراك.

أما ظروف العرب فصارت أسوأ من ظروف جيرانهم داخليا وخارجيا، والبلد الذي كان يملك مقومات ما للانعتاق بشروط أفضل مما تحقق، كان يمكنه بشيء من الحصافة السياسية وبعض الحظ، أن يلعب على وتر المرحلة وظروف الخصوم في تلك المرحلة، بدلا من التخبط والاتكاء على وعود ومعطيات لا وزن لها في السياسة الدولية، حيث ضاع الكثير قبل وخلال وبعد ذلك بفضل إدارات متخطبة في مرحلة تاريخية دقيقة، ورّثت أجيالا مقبلة حصيلة أخطاء تدفع ثمنها حتى بعد مرور قرن من الزمان إلى يومنا هذا. الخلاصة أنه بزوال الدولة العلية توارى الشكل والمضمون السياسي الأبرز الذي عرفه المسلمون عبر تاريخهم.. مثلما ذَوَت آخر مظلة جامعة عرفتها شعوب المنطقة دون أن تأتينا العجلة كما كانت عادتها بمظلة بديلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.