شعار قسم مدونات

تولستوي والنفس البشرية.. كيف نفهم الحياة عبر تأمل الموت؟

blogs - تولستوي

تماما كشخصية دوسويفسكية خرجت لتوها من إحدى روايات فيودور لتعانق الحياة الواقعية، هكذا يرى الكثيرون السنوات الأخيرة من حياة الأديب الروسي المرموق ليو تولستوي بصراعاته النفسية واضطراباته الداخلية، في السبعين من عمره تضاربت داخله الأحاسيس وانتابه أشد أنواع اليأس، ما دفعه لحزم حقائبه مغادرا مقاطعة تولا، تاركا أسرته وثروته وراءه بحثا عن إجابات شافية لأسئلته الوجودية التي لطالما راودته طيله حياته، ما الحياة؟ وما غايتها؟ لماذا نحيا، وما معنى الوجود؟

هي أسئلة فلسفية تصادمت في مخيلته، أرهقته وقلبت حياته من روائي مرموق أشبه بواعظ أخلاقي ديني، إلى عجوز على حافة الجنون لا تعرف روحة القرار، اختار أن يترك الحياة ليعيش مدفوعا بسؤال الموت هاربا متشردا تحت رحمة صقيع روسيا المميت، وكاستمرار لنزاله مع أسئلته لم يرضى تولستوي أن يتقبل الموت ويستقبلها ببساطة ككل الناس فخرج ليجابهها بكل تكبر، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على فراش مهترئة ببيت في محطة "أستابوفو" في نهاية مأساوية لمن اعتبر وما زال أحد أعظم كتاب روسيا والعالم.

في صفحات قليلة حاول تولستوي تعرية حقيقة الموت وما تفعله فينا وبنفس القدر تعرية الحياة وما نفعله فيها، حرك أسئلته الوجودية عن ماهية الحياة والألم، وأدرك بأن الموت هي السبيل الوحيد لفهم الحياة

قبل موته ترك تولستوي موروثا أدبيا فريدا من نوعه، رواياته العميقة كانت فرصته لطرح أسئلته الوجودية المؤرقة، من رواية "الحرب والسلم" تحفة الأدب العالمي وإحدى أجمل الروايات على مر التاريخ، مرورا بـ "أنا كارنينا" عصارة ما توصل إليه وخاتمة كبرى أعماله الواقعية، فـ"الشياطين".. غير أنه لم يناقش الموت بذاك العمق وتلك الحبكة الأدبية المميزة، ولم ينتقد الحياة التافهة كما فعل في رواية "موت إيفان إيليتش" 1886. هذه الأخيرة التي اختار تولستوي الموت محورا لها، ليس حدث الموت ببساطة، بل سلط الضوء على ما تفعله فينا وما يرافقها من اضطرابات تدفعا إلى مراجعة الحياة.

في هذه الرواية لجأ تولستوي إلى سرد قصة إيفان إيليتش، قاض تحقيق بسان بطرسبرغ تسلق المناصب في سبيل الوصول إلى الطبقة البورجوازية الروسية، عاش حياته كما أرادها أن تكون وامتلك كل مقومات الرجل الناجح. لكن وفجأة وفي أكثر لحظات حياته سعادة، داهمه المرض فأصبح حبيس فراشه تتذبذب أفكاره بين الخوف من الموت والأمل في النجاة. ضاقت به جدران غرفته وسئم من وحدته حتى تلاشت الحياة من أمام عينيه، حتى فتأكد أن كل حياته لم تكن أكثر من مسرحية زائفة أثقن أداءها "… وبدا كل شيء في الطريق باعثا على الكآبة، سائقوا التاكسي، البيوت، المارة، كانوا يبعثون على الغم…".

لم يكن إيفان ليتقبل ظهوره بذاك الضعف وتلك الكآبة، فهو الرحل السلطوي القوي الذي كان يتصرف على هواه ويشكل قدوة لأصدقائه القضاة ومثالا للرجل المثابر، غير أنه سرعان ما استسلم لأمر الواقع، فانسحب يفكر في ماضيه وينبش في ذاكرته عله يجد ما كان يستحق أن يعيش من أجله. على فراشه اختار إيفان الاستمتاع برؤية مسار حياة بعيدة وكأنها لشخص أخر غيره. رأى كيف كان يتجاهل الموت طيلة فترات حياته، فعاد إلى ماضيه بكثير من الحسرة والألم "… المسألة مسألة حياة أو موت، نعم، كان ثمة حياة والآن ها هي تمضي…".

وسط مأساة إيفان وبين كل هذا الضجيج الصادر من مخيلته وكل هذا الشك، لم يكن إلى جانبه سوى خادمه جيرازيم رفيقه طيلة فترة مرضه يبث فيه أمل الشفاء ويشفق عليه تارة، ويحاول إقناعه بحتمية الموت وبأنها ليست المشكلة الأساس كما كان يظن تارة أخرى. في حين كانت عائلته وأصدقاءه بعيدين عن المشهد في أكثر لحظات حياته إيلاما. وبعد أيام من الألم والصراخ الموجعين، سمع شخصا بجواره يردد "… انتهى…" هنا أدرك حقا أن الموت نال منه. قال في نفسه "…انتهى الموت ، لم يعد موجودا…" سحب نفسه الأخير وفي منتصف الشهيق تصلب ومات.

حاول ليو تولستوي من خلال رواية هذه تسليط الضوء على الموت كحقيقة حتمية وكسؤال فلسفي عصي، وكشف عن مدى ضعف النفس البشرية، وكيف حولت سقطة من على كرسي حياة إيفان إلى جحيم حقيقي بعد أن أبصر تفاهة حياته وزيف علاقاته. فحتى زوجته براسكوفيا لم تكلف نفسها عناء مواساته طيلة أزمته وفي يوم جنازة زوجها ظهرت تسأل عن إمكانية زيادة المعاش وتفكر في مقبرة رخيصة. نفس الشيء ينطبق على أصدقاءه في العمل، فموت إيفان لم يكن أكثر من فرصة للترقية في المناصب والاستفادة من امتيازات جديدة. "…حسنا هو ميت، لكني ما زلت حيا…" هكذا قال أحدهم. هنا يود تولستوي أن يصور الموت وما يرافقها كأشد لحظات الوحدة وأنها لا تعاش إلا فرديا وأكثر من ذلك كونها أضحت قابلة للاستغلال.

في صفحات قليلة حاول تولستوي تعرية حقيقة الموت وما تفعله فينا وبنفس القدر تعرية الحياة وما نفعله فيها، حرك أسئلته الوجودية عن ماهية الحياة والألم، وأدرك بأن الموت هي السبيل الوحيد لفهم الحياة فحاول الوصول إلى حقيقتها. بالرغم من أفكار الانتحار التي راودت تولستوي ذات مرة، غير أنه لم يهرب يوما من الحياة، فاختار أن يجابهها حتى النهاية، سرد قصة إيفان فكان أول من تعلم منه ألا ينتظر اللحظة الأخيرة كما فعل بطل روايته. خلص في الأخير إلى أن الموت هي من تنقدنا من آلام المرض والحياة، ولا يجعلها مخيفة سوى لغز ما بعدها. فهل الموت كارثة أم أنها اللحظة الحقيقية الوحيدة التي نعيشها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.