شعار قسم مدونات

متى سنكف عن التعاطي مع التاريخ برومانسية؟

blogs كتب إسلامية

دعاني أحد الأصدقاء لمشاهدة مسلسل تاريخي يحكي قصة تعود للقرن الثامن عشر الميلادي، واستجبت لدعوته بكل سرور وشغف لقناعةٍ لدي أن المسلسلات والأفلام وغيرها من الفنون الحديثة أصبحت وسيلة مهمة للحصول على معلومات في مختلف المجالات، والمسلسل المرشَح يعرض قصة قبيلة عربية يسعى سيدها لإنشاء دولة منفصلة داخل الدولة الأكبر، علمًا أن تلك الدولة عربية ولكنها خاضعة لحكام غير عرب.

وبعد مشاهدة الثلاثين حلقة من المسلسل خرجت بالفعل بمعلومات تاريخية قيمة، بالإضافة إلى المعلومات الأدبية، نظرًا لتطرق المسلسل -بشكل غير مباشر- إلى سيرة شاعر مهم من شعراء العامية، ولكن كان هناك بعض التحفظات في تناول القصة؛ من ناحية السرد وعلاقة الأفراد والجماعات ببعضهم البعض، وأول هذه التحفظات هو إظهار زعيم القبيلة كبطل تتمحور حوله الأحداث كلها، وتصنيف المواقف إلى جيد وسيّئ اعتمادًا على قناعاته ونظرته للأمور، وما يترتب على ذلك من تجميل صورته بجوانبها المختلفة؛ الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وإظهاره كزعيم ينبغي لكل الأفراد على اختلاف أعراقهم التفكير مثله والإيمان بمعتقداته، وعرض المعتقدات الثقافية للآخرين بشكل سلبي، وتشويه صورتهم، بل وحشو كلامهم هم -في السيناريو- بما يسيء لهم، وعلى مبدأ: "وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ، وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا".

لم يكن هدف هذا المقال الانخلاع عن ثقافتنا وهويتنا العربية، ولا محاكمة رموزنا التاريخيين، ولكنه دعوة للكف عن التعامل مع التاريخ بعاطفة، وما يترتب على ذلك من تمجيد للأفراد وصنع هالات حولهم

ومن مميزات هذا المسلسل الاعتماد على -ما يمكن أن ندعوه- "اللقطة"، بمعنى إظهار تفوق البطل على الآخرين -من قبيلته أو أعدائه- عند التواصل المباشر بينهم، وأحيانًا إهانته لهم، ثم التجاهل التام للنتيجة النهائية للصراع، فبطلنا هنا ظهر بصورة الممانع والقوي والثابت على عهده، ولم يتوقف عن الافتخار على الآخرين بنسبه، وإرسال الرسائل المهينة المليئة باستعراض القوة، على الرغم أن الآخرين انتصروا عليه في النهاية، وقضوا عليه وعلى دولته كأنها لم تكن، فكأن المسلسل كان يبحث عن مجد لبطلنا هذا بتحويل الأولوية عن النصر النهائي إلى أشياء أقل قيمة في الصراع، ذلك الصراع الذي حسمه من كانت أعينهم على نهاية الحرب، وذهنهم مشغول باستراتجيتها وآليات تنفيذها؛ الآخرون.

ولو سألت ذلك الآخر عن رؤيته لهذا العربي -والتي لم يهتم المسلسل بعرضها- لأجاب أن ذلك العربي خارج عن الدولة وداعٍ للانفصال ينبغي التعامل معه بحزم، وأن ذلك النسب الذي يفتخر به لا يعني ذلك الآخر شيئًا، ولا يحس بفقده بشئٍ عظيم كما يعتقد بطلنا المشفق على حال من لا يعرف نسبه للجد العاشر ويفتخر به، بل ويوجه الإهانات لكل من لا يعرفه، وأن عدم الثبات على العهد بالنسبة للآخر ليس مهينًا له، ومن الممكن أن يُدعى -في عرفه- سياسة حكم ومصلحة دولة. ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة البطل أو ثقافته، بل على العكس؛ فقد كان بطلنا حكيمًا شجاعًا ذو خلق رفيع، ومنطق حسن، كما أننا لا نبحث إثبات أو نفي حق الآخر بحكم قطر عربي، ولكننا نحاول فهم آلية تناول التاريخ، والتي كانت آلية بعيدة عن الحياد في مسلسنا هذا، وآلية تسعى لتمجيد البطل بدلًا تسليط الضوء على أخطائه بغية التعلم منها وعدم تكرارها، وتسعى لتشويه الآخر ومعتقداته وأفكاره وأخلاقه وثقافته وسلوكه، بدلًا من الاستفادة من فكره الذي قاده للانتصار في النهاية، ولعل من المفيد لنا -أو ربما من المفاجئ- أن نعلم أن زعيم الآخرين حكم لاحقًا مصر وفلسطين والحجاز، وصنع نهضة شاملة في تلك الدول.

لم يكن هدف هذا المقال الانخلاع عن ثقافتنا وهويتنا العربية، ولا محاكمة رموزنا التاريخيين، ولكنه دعوة للكف عن التعامل مع التاريخ بعاطفة، وما يترتب على ذلك من تمجيد للأفراد وصنع هالات حولهم، إذ أن الأجدر بنا أن نحلل تاريخنا بفكر ومنطق، وأن نقر جيده ونفتخر به، ونسقط سيئه ونتبرأ منه، وأن نكف عن التعامل مع الآخر بمفهوم المجموعة العرقية أو الدينية الواحدة، وما يترتب على هذا التعامل من إطلاق الأحكام السلبية على عموم الآخرين، بل وتعميم هذه الأحكام زمانيًا، لنجد أنفسنا في صدام أزلي مع أمم لا حصر لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.