شعار قسم مدونات

نظرية الفوضى.. كيف تسبب فراشة باليابان بإعصار بأمريكا؟!

blogs فراشة

لنفترض أنك رميت قطعة زهر وحصلت على رقم 4، وحصل أنك أردت أن تكرر الحصول على الرقم 4 مرة ثانية، فما ستقوم بفعله أن تحاول مسك الزهر بنفس الوضعية وترميه بنفس القوة والاتجاه كما في المرة الأولى، وبغض النظر عن النتيجة، هنالك سؤال مهم.. هل فقط العوامل التي تعرفها مسبقا وأخذت بأسبابها في الرمية لمحاولة تكرار النتيجة هي المتحكمة الوحيدة فيها؟ أم أن عوامل أخرى لا تبدو لك أن تصنع الفارق مثل حالة الجو وقت الرمي وحالة السطح الذي سيرمى عليه تصنع فارق؟ أم أن عوامل أخرى ليست معروفة علميا بعد تصنع فرق إضافي؟

وبلغة أكثر قربا للواقع، هل فكرت بماذا كان سيحدث لو أنك لم تشاهد التلفاز البارحة وقمت بنشاط آخر، أو تعرضتَ لحادث السيارة الذي تفاديته في وقت سابق، ماذا لو ولدت في مستشفى غير ذلك الذي ولدت فيه بالفعل؟ وحتى بالخوض في الحياة الجنينية قبل الولادة.. وعلى نحو مخيف وأكثر استحقاقا للاهتمام، ماذا لو أنك لم تكن النطفة الأسرع ونتيجة لذلك دخلت البويضة نطفة أخرى؟ كيف يمكن لتلك التغييرات البسيطة أن تبدأ سلسلة أحداث طويلة تجعل مستقبلك يأخذ مسارا مختلفا على المدى البعيد؟

لم ينف الإسلام نظرية الفوضى، بل وتحدث عن واقعيتها، ففي البداية اليقين في الإسلام عن قدرة الله على فعل أي شيء، في قوله تعالى وهذا الفكرة تؤيد النظرية من كونها تتحدث عن القدر كونه فكرة إرادة ونية

تاريخيا وبالعودة إلى حزيران 1914 حيث لم تكن الظروف السياسية في أفضل أحوالها، تعرض ولي عهد النمسا فراند فيرديناند لعدة تهديدات بالاغتيال، فحَدَثَ أنه خرج في أحد الجولات وبسبب ضلال سائق سيارته للطريق المفترض أن يذهب فيه لوجهته وسلْكِه لطريق فرعي، كان يترصده فيه أحد المحاولين لاغتياله، فقُتِل آنذاك وأعلنت على إثر ذلك الحدث الحرب العالمية الأولى وبسبب تبعاتها نشأت الثانية، وتبعات الأخيرة بسيطرة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أَنشأت الحرب الباردة التي نلمس آثارها اليوم. وكل تلك الأحداث الكبيرة كانت بسبب ضلال سائق سيارة عن الطريق الصحيح! وتاريخيا أيضا رَفْضُ معهد الفنون في النمسا لهتلر وموهبته في الرسم كان قد أخرج "موهبة" الديكتاتورية من داخله، فلو أنه قُبِل في ذلك المعهد لربما كان لن يفكر ببساطة أن يصير جنديا ويقاتل في الحرب العالمية الأولى وما كان لذلك أن يلعب دورا في طريق إشعاله للحرب العالمية الثانية كقائد لألمانيا.

تاريخ النظرية

بعدما افترض نيوتن ولابلاس عدم صحة النظرية باعتقادهم أن مبدأ الحتمية هو الذي يسود كافة القوانين الفيزيائية والرياضية للعالم، والحتمية التي يطرحونها تعني أن العالم يمثل نظام محكم يعمل كآلة ميكانيكية لا يحدث فيه أي حدث غير قابل للتفسير، وأن كل حدث يبتع قانون رياضي خاص به والإلمام بتلك القوانين سيكون سبب كافي لا لفقط التنبؤ بالمستقبل بل القيام بتغييره أيضا عبرها! عارض العالم بونماري الحتمية التي افترضها نيوتن ولابلاس من زاوية مهمة وهي علم الطقس، وانطلق من أن علماءه يجدون صعوبة كبيرة في التنبؤ الحتمي بحالته على مدى أشهر أو حتى على مدى أيام، وأن العواصف تكون غير قابلة للتوقع لدرجة أنها تبدو محض صدفة!

كانت تلك الزاوية التي لفت بونماري الانتباه إليها منطلق مهم لعالم رياضيات والأرصاد الجوية إدوارد لورانس، حيث أعد نموذج للتنبؤ بالطقس وهو عبارة عن مجموعة من المعادلات الرياضية التفاضلية المعقدة تمثل التغيرات في درجة الحرارة والضغط وسرعة الرياح، خرج مع تلك المعادلات بالنموذج القابل للتجريب، اختبره في 1961 عمليا وذلك بإدخال نفس القيم الرياضية الدقيقة في تجربتين منفصلتين ومتابعة النتائج التي يفترض أن تكون نفسها في كليهما بناء على المعطيات، لكن ما حدث أن النتائج اختلفت والمسؤول عنه هو عدم دقته في إدخال الأرقام ففي المرة الأولى أدخل 0.506127 وفي المرة الثانية أدخل 0.506 بإهمال مراتب عشرية غاية في الصغر، لكنها تلك التي كانت المسؤولة عن التغييرات الكبيرة على المدى البعيد، وهذا محور نظرية الفوضى.

أثر الفراشة

تطرح النظرية أن تحريك فراشة لجناحيها في مكان ما سيساهم على المدى البعيد بتغيرات في الطقس من خلال إحداثها تموجات مهملة وصغيرة جدا في البداية، لكنها مع الوقت ستسبب إعصار في مكان آخر! دون أن يعني ذلك المثال حرفيا ما يطرحه، فالمثال يتحدث عن مساهمة دون سببية حتمية بين حركة الفراشة والإعصار، فالحديث عن ملايين الفراشات حول العالم قد يكون هو المتسبب بذلك الإعصار أو حتى منعه! الحدث المتسبِّب بدوره قد يكون مختلفا ربما يكون إقلاع طائرة أو حركة عصا بيسبول! "The butterfly effect" أحد أكثر الأفلام مشاهدة على شبكة netflix هو فيلم خيال علمي يجسد بشكل درامي هذه النظرية، المميز في هذا الفيلم أنه يجسد حدث مختلف في بدايته وبالتالي يصور في كل اختلاف الحاضر المختلف لكل واحدة من تلك البدايات، ومن ثم مستقبل مختلف، فيظهر للفيلم في نهاية الأمر أربع نهايات مختلفة.

يكتشف بطل الفيلم إيفان بعد عدة تجارب أن تغيير الماضي يغير الواقع أيضا، وأن النتائج ليست جيدة في كل الأحيان. ولإسعاد نفسه وأصدقائه يحاول إيفان تصحيح الماضي، ولكن لكل حقيقة جديدة هناك جانب مظلم، فيجد إيفان نفسه غير قادر على إعادة الماضي لما كان عليه. المغزى من استعمال مصطلح "أثر الفراشة" هو الحديث عن جملة من الأحداث المتتابعة المتلاحقة المختلفة عن غيرها التي شرعتها بداية مختلفة بسيطة في بادئ الأمر.

نظرية لو

لم ينف الإسلام نظرية الفوضى، بل وتحدث عن واقعيتها، ففي البداية اليقين في الإسلام عن قدرة الله على فعل أي شيء، في قوله تعالى وهذا الفكرة تؤيد النظرية من كونها تتحدث عن القدر كونه فكرة إرادة ونية أكثر من كونه مجموعة من الأحداث التي لم يكن ليحصل أحداث غيرها على الإطلاق، وبالتالي تتحدث عن سيناريو محتمل كان ممكن لأن يحصل ولكنه لم يشأ له الحدوث. وفي حديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" كان يطرح فكرة أن القدر الحاصل لأي إنسان هو طريق من عدد من الطرق اللامتناهية التي كانت لتحصل لو لم يرتضي الله أن لواحد منها فقط للحصول، وحكمة الحديث في النهي عن استعمال لو في التحسر كان لجعل الإنسان المسلم أكثر إقبالا على الحياة، فهي لا تفيد شيئاً وإنما تفتح باب للندم والسلبية.

وأخيرا يقول عمر رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين الإسلاميين "لو عرضت الأقدار على الإنسان لاختار القدر الذي اختاره الله له" والقول الذي يتحدث عن سيناريوهات أخرى غير الحاصلة المقدَّرة، والحكمة مفادها أن حصول الأحداث السيئة تجعل أي إنسان يتمنى عدم حصولها، ولو أُفتُرِضَ ذلك كان ليؤدي لأحداث أكثر سوءا، وهذا المراد بقوله "لاختار القدر الذي اختاره الله له" ولربما وبعد تناول نظرية الفوضى دينيا وتكاملها مع ذلك الإطار يمكن أن نطلق عليها نظرية "لو".

مناقضة النظرية

الفكرة التي يلوح بها معارضو نظرية الفوضى أن علم الفضاء مثلا قابل للتنبؤ وفق علاقات رياضية وفيزيائية محددة، حيث يمكن للعلم حاليا تحديد موقع كوكب معين في وقت معين إذا ما عرفت سرعته، والحديث أيضا عن الانتظام السنوي بتغير التوقيت الشتوي مقارنة بالصيفي في ساعات النهار والليل تبعا لموقع الأرض على مسارها البيضوي حول الشمس ودوران الأرض حول نفسها، ولكن الحديث عن الفضاء عموما وعن كواكبه التي تسير وفق قوانين متوقعة أمر يجعل من التنبؤ بـ"مستقبلها" أمر ممكن، لكن ما تناقش فيه نظرية الفوضى هو سلسلة الأحداث المبنية على حدث يكون من سلوك إنسان أو ظاهرة طبيعية، وغيرها مما يقاس عليها من الأمور الغير قابلة للتوقع.

وجانب آخر يناقشه معارضوها أن فكرة أثر الفراشة تجعل النظرية تبدو وكأنها لا تناقش سوى علم الطقس المعروف يقينا بتقلباته، لكنها في الواقع تناقش علوم أخرى كثيرة، فهي مثلا تناقش علم الاقتصاد الغير قابل للتنبؤ أيضا ويظهر ذلك جليا عند حدوث أزمات اقتصادية عالمية كثيرة دون سبب واضح لها، وتناقش كذلك علم الطب الحاوي على الكثير من المتلازمات الغير قابلة للتفسير حاليا، وعلم الحروب الذي يصعب فيه تحديد الغالب والمغلوب دوما رغم مناقشة منطقية لمعطيات المعركة، وغير ذلك من العلوم التي تتناولها نظرية الفوضى. هنالك حكمة إنكليزية قديمة تناولت نظرية الفوضى قبل الجميع بمفهوم بسيط، مفادها عند ضياع مسمار حدوة الحصان ضاعت الحدوة وثم الحصان وضاع بدوره الفارس المفترض أن يركب عليه ليوصل رسالة المعركة، فضاعت رسالته فضاعت المعركة فضاعت المملكة، وكل ذلك بسبب مسمار حدوة لا يتجاوز 60 ملم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.