شعار قسم مدونات

الثورات العربية وتحدي مدرسة ماترنيش

blogs ماترنيش

في القرن التاسع عشر هزت أوروبا عدة ثورات شعبية، كانت نتيجة حتمية لتسلط الأنظمة الاستبدادية القمعية على مقاليد السلطة في كل دول أوروبا، بما ما في ذلك من كانت تدعي الحرية والديمقراطية، إلى جانب هيمنة القوى الكبرى على القارة الأوروبية واستعباد شعوبها. رغم أن بعض الشعوب الأوروبية آنذاك كانت قد استطاعت الحصول على الاعترافات ببعض حققوها في تسيير شؤون الدول، إلا أن الأمر لم يكن بالأمر البسيط، للاصطدام الأزلي بين أصحاب الحقوق وأصحاب المصالح. لم يكن التمثيل للشعب في السلطة في حقيقة الأمر إلا عبر مجالس صورية لامتصاص غضب الشعب. أما الغالبية العظمى من الشعوب فكانت محرومة من الحقوق الأفراد والجماعية، مما دفع بالوضع للـتأزم ثم للانفجار.

  

كانت أول ثورة اندلعت هي الثورة الفرنسية والتي سبقت غيرها بأكثر من نصف قرن. لكنها اصطدمت بالرفض والمواجهة من قبل كل الدول والقوى الأوروبية، والتي لم تكن على استعداد لقبول تغييرات سياسية جدية على المستوى المحلي والقاري. وبهزيمة فرنسا أمام التحالف الأوروبي انطفأت شعلة الثورة ومعها امال الشعوب المتطلعة للحرية. وضن الساسة أنهم قد أخمدوا لهيب الثورة الى الأبد، لكن ما هي إلا سنوات واندلعت الثورات من جديد سنة 1848، والتي انتشرت في كل القارة الأوروبية. وقد شملت هذه الثورات أغلبية الشعوب التي كانت تحت حكم الإمبراطورية النمساوية. في تلك الفترة كانت النمسا القوة العظمى المسيطرة على القارة. واستطاعت إخضاع أغلبية الشعوب والدويلات، بما في ذلك الألمان والإيطاليين، كما كانت تمثل إحدى القوى المحافظة على النظام القديم في أوربا.

     undefined

   

حينما اندلعت ثورات الشعوب المناهضة للحكم النمساوي وللنظام السياسي العام في أوروبا طلب الإمبراطور من رئيس الحكومة ورجل أوروبا القوي ماترنيش بأن يعد خطة لإخماد الثورات واسكات الشعوب، فأجابه ماترنيش بأنه قد أصدر مرسوما يمنع الثورات، ماترنيش سياسي ورجل دولة نمساوي ومن أهم شخصيات القرن التاسع عشر. ينسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في أوروبا طوال الأربعين عاما التي أعقبت هزيمة نابليون. وقد شكلت مبادئ ماترنيش، والتي تبلورت خلال مؤتمر فيينا، مجرى الأحداث السياسية الأوروبية الأساسية لأكثر من نصف قرن، كان ماترنيش الدعامة الرئيسية للنظام السياسي في أوروبا القائم على مبدأ رفض التغيير والمحافظة على توازنات القوى في أوروبا في مواجهة الثورات الشعبية، وهذا خوفا من تقوية المشاعر الوطنية للقوميات المتعددة في أوروبا مما سيؤدى حتما، حسب أصحاب القرار، لتفكك الإمبراطوريات وشيوع الفوضى والحرب في أنحاء القارة.

        

أحد أكبر تلامذة المدرسة الماترنيشة في القرن العشرين هو هانري كيسينجر الذي ينحدر من أصول ألمانية والذي يعتبر من أكبر السياسيين والمنظرين المؤثرين في القرار الأمريكي في القرن الماضي، بل ومازالت مدرسته تؤثر بشكل كبير في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية المبنية على رفض التغيير والمحافظة على توازنات القوى في العالم، فبينما تنتفض الشعوب في المنطقة التي تسمى الشرق الأوسط من أجل انتزاع حقوقها ودحر الأنظمة المستبدة في أوطانها، تبقى الإدارة الأمريكية، متحججة بالمصالح الاستراتيجية العليا لأمريكا، متنكرة لحق هذه الشعوب في الحرية والكرامة بل وتدعم الدكتاتوريات في قمعها لشعوبها.

  

في الحقيقة أن تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع طموحات الشعوب مربوط بقناعات ساستها النابعة أصلا من الأسس التي وضعتها المدرسة الماترنيشية المسيطرة على القرار الأممريكي، والتي تعتمد أساسا في تعاملها مع الثورات على القمع. فلا غرابة في مساندة البيت الأبيض لأنظمة القمع والاستبداد في الشرق الأوسط والتي لن تصمد أسبوعا واحدا أمام إرادة شعوبها لو تخلت عنها أمريكا.

 

لكن ما يتناساه تلامذة المدرسة المترنيشية في أمريكا اليوم أنه لا يمكن الوقوف مهما طال الزمن في وجه من يتفانى في طلب حقه، وليس بإمكان القوانين والاتفاقات التي يحاول أصحاب المصالح فرضها من جمح من له حق مهضوم أو كائن مظلوم. فماترنيش ذهب ومعه نظامه، ولم تبقى إلا إرادة الشعوب، وأوروبا اليوم هي من أصل ذلك الحراك الذي حاول ماترنيش التصدي له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.