شعار قسم مدونات

تعبت البحث عن فرصتي في الحياة!

BLOGS تفكير

لقد تعبت جدًا، تعبتُ التخفيَ من الأمنيِّين يومياًّ، تعبت من بقايَا الطعامِ، تعبتُ من الملابسِ التي ألبسُها منذ أيامٍ، تعبتُ من ليلِ هذا الوطنِ ونهاره الطَّويليْن، تعبتُ من قطراتِ مائِه التي تنزِل في حلقي كالدم وهوائِه السَّام، تعبت من جلوسي كمتشردٍ في المِيناء، تعبتُ انتظارَ قدوم الباخرة، تعبت متابعتَها تغادرُ المِيناءَ في كلِّ مرة أفشلُ في محاولة ركوبِها، لقد تعبت جداًّ، تعبت البحثَ عن فرصتي في الحَياة!

   

إن الدَّاخل والخارج من باب الميناء حيث أكون غالباً، ينظر إليَّ نظرةً قلَّما تكون فيها رحمةٌ وشفقةٌ، نظرةٌ تشعرُني أنني منبوذٌ، تشعرني أن الوطنَ بمن فيه لا يسَعُني ولا يحْتملُ إنساناً مثلي، لن أبالغ الوصفِ إن قلتُ إن نظرتهم تلك كانت بمثابة قُنبلةٍ تنفجرُ داخلي وكأنها تقضي على جميعِ خلايايَ في ثانيةٍ واحدةٍ!

    

في إحدى المراتِ تمكنتُ التخفيَّ، ركبتُ شاحنةً كبيرةً ونجحت في الاختباء بين صناديقها، لأول مرةٍ بعد مجيئي لميناءِ العبثِ هذا نِمت نوماً ثقيلا، ظننتُ أنني فور استيقاظي سأجدني خارج الوطن، فالشاحنة حسب تقديري ستركب الباخرةَ المغادرةَ حتمَا، كنت سعيداً جداًّ، وأخيراً جاءت فرصتي؛ بعد مرور مدة ليست بالهينة استيقظتُ لسماعي ضجيجاً لبشرٍ يصرخون وآلالات تصدر أصواتًا مزعجةً، وقفت فإذا برأسي يضرب السقف، إنه مستودع كبير تملؤه الشاحنات والعاملون يفرغونَ تلك الأخيرة من صناديق كالتي اختبأتُ بينها، استنتجت فيما بعد أنها تحمل قطع غيارٍ للسيارات، لحظتها لم أخشى السقوط ولا أن أُجرَح أو أن يَضربُونني، كان كُلي همي آنذاك أن أسمع صوتاً يوحي إليَّ أنني ما زلت في وطَني ولم أقطع البحر.

   

أصدقائي الثَّلاثة الجُدد أتَوا إلى المِيناء في الشِّتاء حيثُ كانت اللَّيالي طَويلةٌ تمْضي ببطءٍ شَديدٍ من شدَّة البردِ، الشيءُ الذي كانَ يحولُ دون نومِنا، كيف ننامُ ونحنُ لا نشعر بأطرافِنا حتى، رمُوشنا وكنَّا نعجز أن نتحكم فيها من شدَّة البُرودة

كنت مستعداًّ أن أبقى أصَماًّ ما حييت على أن أسمع لُغتِي، نزَلت في ظهري قطراتُ عرقٍ باردةً واهتزت دواخلي في الثواني القليلة قبل أن ينطق ذاك الأحدهم الذي تمنيتُه ألا ينطقَ أبداً، أشار إليَّ فضحكوا جميعاً: إنه مهاجر أبله؛ انبطحْ كي نُنزلك، إنك في معمل السيارات المجاور للمنطقة حيث الميناء، إنك محظوظ جداً لأنك ما زلت على قيد الحياة رغم خطورةِ المكان الذي اختبأت فيه.. بالله عليكَ عن أي حظٍ تتحدث يا هذا، يا ليتني متُّ وكنت منسياًّ قبل أن أعلمَ أن هذا الوطن ما زال متشبثاً بي، إنه كَزوجة أبي لا يُحبني أبداً، لكن بالمقابل لا يودُ أن أغادرَه كي يتمتع برؤيتِي أغرقُ في دهاليز الفشل والعذاب ويتلذذ بتقهْقُري يوماً بعد يوم!

 

بعدما عدت من مصنعِ الاحباط ذاك تعرفت على زميلٍ لي في المأساة، شابٌّ عشرينيٌّ، طويل ونحيف جدا، كان واضحاً في وجهه الشاحب أثر المكوث هنا طويلاً.. وتأكد لي ذلك عندما أخبَرني أنه منذ ما يقرب السنة وهو هنا يعيد محاولات الهروب التي تفشل في كل مرةٍ.. اقترح علي ذات مرةٍ أن نغامر ونجتاز السياج الذي يفصلُ مكان تواجدنا عن سكة القطارِ الذي يحمل السلعَ التي تُصَدَّر للخارج عبر البواخر، مؤكدًا أنه يعرف الوقت الذي يمر فيه هذا الأخير كي لا أخشى أن يدهسنا، وأكد أنه فور نجاحنا في مهمتنا سنصبح في مكان تواجد البواخر التي تنقل الركاب والبضائع للخارج، قال لي بحرقةٍ تدمي القلب: سنتطفل رغماً عن أنوفهم وستنقلنا إحدى تلك الباخرات وأحلامنا الباهتة أيضا للضفة الأخرى.

 

انقبض قلبي لما أسر إلي بما ينوي وأظهرت له رفضي التام، أجبته : صحيح أنني مستسلمٌ وساخطٌ أيَّما سخط عن مرارةِ ما أعيش وأتخبط فيه في حدود هذه البقعة الجغرافية ولكنني ما زلت أطمح لحياة أخرى ما زلت أريد أن يُرفع خدي لفوقٍ من فرط الضحك ما زلت أريد النوم على وسادة وفراش نقيين ما زلت أحلم بحساء ساخن وزي رياضي وعطر راقٍ، ولا أستطيع أن أغامر بحياتي وأنهيها بدهسة قطار، حاولت أن أقنعه أن الأمر خطيرٌ وليس كما يرى لكنه كرر على مسامعي أنني صغير وجبان ومتفائل أكثر من اللزوم وابتعد عني وكان كلما صادفني يتمتم بكلمات نابية تزيد طيني بلة.

 

بعدما ظننتُ أنَّ السبلَ قد انقطعت، وأنَّ فرصة أنْ أُُنقذَ نفسي من بقايا هذا الوطنِ قد صارت شبهَ مُستحيلةٍ، جمعتني الأقدارُ بثلاثة شُبَّانٍ يكبُرونني سنًّا ويبدو أنهم غيرَ الذي التقيتهم من قبل، إذ من ملامحهم أحسَست أنهم طيِّبون وإنسانيونَ جدا ..بعدما تقربتُ إليهم تأكَّدَت عندي الظُنون ؛ إنهم ثلاثتهم أصدقاءُ عمرٍ، ترَعرعوا معًا ودرسوا معاً وفشِلوا في إيجاد مكانهم هنا معاً، وبالتالي هُزموا معًا وأكل عليهم الدهر وشربَ معاً، احبطوا معاً، وعندما انسدَّت الأبوابُ جميعَها حقدوا معاً وقرروا الهروبَ، هروبٌ مجهولة معالِمُه وحيثياتُه المقبلة.

 

انطلقنا.. كانت الأمواج عملاقةٌ، أول واحدة صادفناها بلَّلتنا جميعنا، كانت باردةً للغاية بردًا لم أشعر به من قبلُ، أظنُّه كان خليطًا من الجوِّ العاصف والعراء من الوطَن

أصدقائي الثَّلاثة الجُدد أتَوا إلى المِيناء في الشِّتاء حيثُ كانت اللَّيالي طَويلةٌ تمْضي ببطءٍ شَديدٍ من شدَّة البردِ، الشيءُ الذي كانَ يحولُ دون نومِنا، كيف ننامُ ونحنُ لا نشعر بأطرافِنا حتى، رمُوشنا وكنَّا نعجز أن نتحكم فيها من شدَّة البُرودة، فكنَّا نُمضي الليلة نتبادلُ أطراف الحديثِ نقُصُّ ما عانينَاه حتى آلت أوضاعُنا لما نحنُ عليه، يحكِي الواحدُ منا باستفاضةٍ كلَّ ما به، يليه الآخرُ فالآخر حتَّى تشرقَ الشمسُ مع انتهاءِ آخر واحدٍ منَّا وكأنَّنَا نَحنُ من رتَّبنا لذلكَ.. في الحقيقةِ لا أُخفي أنَّني كنتُ أقضِي تلكَ اللَّيالي الليلاء حاقدًا للغاية، كنتُ أتساءلُ؛ كيف لمن يشعرُ مثلنا أن يصْبِرَ لكل هذا!أ مِن الطبيعيِّ أن يجتمعَ عليك في آنٍ واحدٍ عتوُّ الطبيعةِ وطُغيانُ البشر!

 

الأصدقاءُ الثلاثة لَمْ يَأتوا للميناءِ طمعاً في اقتناصِ إحدى الفرَصِ، هُم وجدُوا ضالَّتهم ينتظِرونَ قدومَها فقطْ، إنهم فقط ينتظرونَ يومًا عاصفيًّا يلتقونَ فيه بأحدِ معارفِهم الذي يسر لهُم قاربًا مطَّاطياَّ مقابل مبلغٍ ماديٍّ مهمٍ.. القاربُ صغيرٌ لا يستوعبُ أكثرَ منْ شَخصيْنِ، لكن لقصرِ ذات اليد سَيستقِلُّونه جميعهم، لقد تأكدت من إنسانيتهم التي أحسستها بدايةً لمَّا عرضوا عليَّ مرافقتهم.. عندما أعرضتُ بحجَّة أنني سأزعجهم لضيقِ القاربِ المطَّاطي، أجابني أحدهم لن يكُون القَارِبُ أضيقَ علينا من هذا الوطنِ!

  

بعد أيَّام من التخطيطِ والتَّرقُب جاءت اللَّيلة المنتظَرة، الليلة العاصفيَّة التي ستنزل سلامًا علينا، ستجعلنا بعيدين عن أنظارِ الجميع، ستجعلنا وجهاً لوجهٍ مع قدرِنا المحتوم: حياة في الضفة الأخرى أو الموتُ غرقاً بين الضفتين.. ركبنا قارب الموت ذاك؛ قارب الموت بما تحمله الكلمة من معانٍ، إذ بمجرد ملامسته تشعر وكأن نصف جسدك قد اختفى.. كان رقيقًا وهشًّا للغاية، هشا لدرجة أن إمكانية تشوهه كبيرةٌ جدًّا، كانت معه مجاديفٌ، لكن في ليلةٍ كهذه يقينًا لن نحتاجها، فالأمواج ضخمةٌ، وحتمًا ستقذفنا وإيّاه بعيدًا.. أعترف، إنَّ ركوبنا في ذاك الشبه قاربٍ كان مغامرةً كبيرةً وكلنا كنَّا مدركينَ ذلك، لكن أنّا لنا التراجع.

   

بعد وقت طويلٍ من الصَّمت والتأمل فيما نحنُ عليهِ، ركبنا واحدًا تلو الآخر، كل واحدٍ منَّا كان يخفي غصَّته عن الآخر، ويحاول إخفاء دموعِه المتطفلة رغمًا عنه.. انطلقنا.. كانت الأمواج عملاقةٌ، أول واحدة صادفناها بلَّلتنا جميعنا، كانت باردةً للغاية بردًا لم أشعر به من قبلُ، أظنُّه كان خليطًا من الجوِّ العاصف والعراء من الوطَن.. في الليالي التي سبقت انتحارنا ذاك، كم من واحدٍ منا كان يتبجَّح بقدرته التَّحمل، ويراهن بقوَّته على مقاومة الأمواج، لكن في لحظة الهوانِ تلك لم يقاوِم أحدٌ منا وذهبنا جميعناَ سداً، ذهبنا ضحية وطنٍ لم تشعر بقيمتنا سوى حيتان محيطه.. في لحظة النهاية لم أخفي دموعي تركتها تنهمر كشلاَّل ضخم وصرخت عاليًا: آهٍ من ذاك الوطن يا الله، كنت أراني رائد فضاءٍ وها أنا اليوم غريق حلمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.