شعار قسم مدونات

بيتري.. والفرنسي الذي استخدم الآثار المصرية وقودا في مطبخه!

BLOGS بيتري

أدرك بيتري من خلال حفرياته العديدة أهمية تبويب الآثار حسب التسلسل التاريخي؛ عن طريق طبقات الحفر وأعماقها المختلفة، واستطاع بالفعل في الكثير من الأحيان التوصل إلى تأريخ الآثار التي عثر عليها، كما استطاع التوصل إلى معرفة أعمار المعابد والمباني الأثرية من خلال ربطها بطبقات التربة. واهتم بيتري بعملية توثيق الأثر وتسجيله، وكان له دور كبير في إقامة معارض للآثار المصرية بأوروبا؛ أبهرت الجميع، ما دعى إلى ظهور أصوات مطالبة بضرورة حماية الآثار المصرية، وعلى إثر ذلك أُنشئت "جمعية الآثار المصرية"، وطالب مؤسسو الجمعية -وكانوا من أعيان إنجلترا وأثريائها- بتعيين مفتش بريطاني بمصر لكي يراعي الآثار المصرية هناك، وقوبل هذا المقترح بالرفض من قبل الفرنسين الذين احتكروا إدارة الآثار المصرية!

وبالرغم من ذلك تم الاتفاق بين الفرنسيين والإنجليز على عمل لجنة من أجل متابعة حال الآثار المصرية، واتخذت اللجنة بعض القرارات المهمة التي نظمت عملية تجارة وتصدير الآثار، حتى أن بيتري قال بفخر؛ "وبذلت جهودا سياسية مكثفة أدت إلى صدور قوانين حازمة لكنها أكثر مرونة، تحدد بوضوح مواصفات الأعمال الاستكشافية؛ منها ضرورة النشر، وتضييق الخناق على التجار حتى لا يحققوا أرباحا بأسلوب انتهازي".

 

أختم حديثي عن بيتري فأقول؛ إنه وبالرغم اكتشافاته العديدة والهامة، إلا أنه لم يكن أحسن حالا من ناهبي الآثار المصرية، فقد أحزنني وأنا أبحث عن اكتشافاته أنه ذكر في إحدى كتاباته؛ بأنه عثر على مقبرة في اللاهون

أما الدور الأكبر لـ بيتري في مصر فهو قدرته أو محاولته التوصل إلى التأريخ الحقيقي، فقد استطاع من خلال حفائره عام 1894 بـ "نقادة" (بمحافظة قنا حاليا) العثور على ألفي مقبرة مكتظة بالجثث منذ العصر العتيق، كما استطاع فيما بعد التوصل لمقبرة ملكية هناك، ومن خلال ذلك أثبت أن الحضارة المصرية القديمة لها جذور ممتدة إلى حضارات سابقة قبل عصر الأسرات الفرعونية، وأن هذه الحضارات نمت وتأصلت في وادي النيل نفسه، ولم تكن حضارة وافدة من بلاد ما بين النهرين كما كانت تدّعي النظريات السابقة. أما دراسته للفخار المُكتشف بنقادة، فهي مدرسة في حد ذاتها، يقول بيتري: "درست الفخار الموجود في القبور بعناية حسب أشكاله وزخارفه"، ولاحظ تغيرا تدريجيا في حجم الأواني الفخارية المكتشفة؛ وخاصة في مقابض نوع من الجرار، حيث رأى أن الإناء كان في البداية من أجل الاستعمال اليومي، ثم أضيفت إليه أشكال زخرفية فيما بعد، ثم تحولت الزخرفة إلى خطوط ملونة. واستطاع من خلال ذلك التوصل إلى وضع تسلسل زمني لعصر كما قبل الأسرات.

 

وقد أثارت نظرية بيتري الفريدة هذه حفيظة الفرنسيين؛ الذين ظلوا في معاداتهم له، وخاصة أنه لم يسكت عن صفقاتهم سيئة السمعة وعمل على إدانتها، حتى أنه يحكي في كتابه الذي عنونه بـ "سبعون عاما مع الآثار" الكثير من أخطاء الفرنسيين تجاه الآثار المصرية، ومنها: أن باحثا فرنسيا قام بكشوف في مقبرة أبيدوس الملكية، فلم ينشر أي دراسة عنها، والأدهى أنه استعمل ما وجده من الأعمال الخشبية الخاصة بالأسرة الأولى كوقود في مطبخه، أمّا ما اقتناه فقد تبعثر بين شركائه الذين مولوا الكشف حتى بيعت في مزاد علني بباريس"!! وقد تعرض بيتري وزوجته لأخطار شخصية، فقد اقتحم لص ذات يوم منزله ليسرق تمثالا ولما كان التمثال ثقيلا وقع اللص ووقع التمثال فتم القبض عليه إلا أنه سرعان ما تم الإفراج عنه بعد أن قدم رشوة للمسؤول (هكذا يقول بيتري). كما كادت رصاصات أن تصيب زوجته السيدة بيتري بعد أن أطلقها لص آخر أراد أن يقتحم كوخهما.

 

وأختم حديثي عن بيتري فأقول؛ إنه وبالرغم اكتشافاته العديدة والهامة، إلا أنه لم يكن أحسن حالا من ناهبي الآثار المصرية، فقد أحزنني وأنا أبحث عن اكتشافاته أنه ذكر في إحدى كتاباته؛ بأنه عثر على مقبرة في اللاهون (بمحافظة الفيوم حاليا) تعود لعصر الأسرة الثانية عشر؛ مليئة بالقطع الذهبية فصرف العمال في الحال، ولم يترك إلا تلميذا يثق فيه، وظل يحرسها بنفسه لأيام حتى أخرج كل ما كان فيها من كنوز ذهبية. وبعد مفاوضات طويلة لم يستطع المتحف البريطاني التحصل على تلك الكنوز، ففاز بها متحف المتروبوليتان بأمريكا وهي معروضة به الآن! وبعد أن تقاعد بيتري؛ انتقل إلى القدس، فعاش هناك مع زوجته في المدرسة البريطانية لعلم الآثار، ثم عمل مؤقتاً في المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية، حتى توفي عام 1942 عن عمر ناهز التسعين عاما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.