شعار قسم مدونات

هروبي الأخير.. مذكرات هارب من الخدمة (2)

blogs طريق

ارتفعت یده الیمنی في الهواء، لم أعرف بانها ستأتي نازلة بقوة على خدي اليسار.. طرحتني أرضاً على يميني.. أحاول أن أفيق من صدمة الضربة المفاجئة دون سابق إنذار.. لا أستطيع، تحت هول الركلات من ثلاثة انضباط محيطين بي.. أجبرتني الركلات على الوقوف على قدميّ ثانية، لأصطف في رتل العساكر السجناء المنتظر دخوله في سجن تسفيرات الحارثية في بغداد.. ما أن وقفت على قدميّ ثانية، حتى ارتفعت يده اليسرى هذه المرة، لتنزل على خدي اليمين.. ثلاثة أيام في سجن تسفيرات الغزلاني، جوعاً وإهانة، وكآبة وضيقاً، وانزعاجاً من الحال، وحزن الاعتقال بعد فرحة الهروب.. كل ذلك كان كافياً ليجعلني من الضعف والانكسار، والهزيمة النفسية، لتسقطني أرضاً كل ضربة على خدي، ثم لأجبر ركلاً على الوقوف.. أولئك كانوا الانضباط العسكري المحيطين بنا أمام الباب النظامي لسجن الحارثية في بغداد، ينهالون علينا ضرباً، قبل أن يدخلونا السجن..

 

هم استلمونا من الانضباط الذين قدموا بنا من سجن تسفيرات معسكر الغزلاني في الموصل.. يتأملّون المشهد بابتسامات وضحكات.. يودعوننا في سخرية وهم عائدون إلى الموصل.. كان ذلك المشهد أكثر إيلاماً لنا من ضربات انضباط بوابة الحارثية.. هي مجرد عملية التعداد لأسمائنا، نحن الجنود المساجین الذين وصلوا للتو إلى هنا في الحارثية ببغداد.. لا بد لصاحب الاسم، إذا نودي عليه، أن يأخذ حصّته من الضرب حتى السقوط.. ومن ثم إشباعه ركلاً حتى الوقوف على قدميه.. تلك هي مراسيم استقبال الحارثية لنا.. الحارثية من الداخل كانت أقرب لمدخنة منها للسجن.. ستمائة سجين في هذه القاعة (الجملون) الضخم، يدخنون معا، لا أرى أحداً من غير المدخنين بينهم غيري.. لا أدري من الذي كان قد أفتى لي بحرمة التدخين، كي لا أستفيد الآن كما البقية من متعته هنا، فأقضي جزءاً من وقتي بين المساجين مدخّناً.. لم أكن مدخّناً، لكن شهيقي يأخذ دخانهم المنتشر في الهواء حتى دمعت عيناي.. لا فرق هنا بين مدخّن وغيره، فالجميع غارق في الدخان.. الفرق فقط أن المدخّن يتمتع، وغيره يتأثر..

 

لم يقدّموا لنا الأكل في أيامنا الثلاثة في تسفيرات الغزلاني.. كانت صناديق من البسكويت والبرتقال ترسل للبيع في وجبة صباحية وأخرى مسائية.. ما كنت أحمله من مال في رحلة الهروب، يكاد لا يكفي لشراء برتقالة‌ أو بسكویت

القاعة مبنيّة بالطابوق الإسمنتي من الأرض إلى علوّ مترين، وبعد المترين تأتي هيئة قفص حديدي كبير ينتهي بالسقف المكوّن من الجينكو الحديدي.. الأسبوع الأخير من السنة يجلب معه البرد الشديد على بغداد، فيرينا الشتاء فيه قوّته، في قفص مفتوح، ليس هناك من مدافيء.. العدد الكبير للجنود المساجين، والضوضاء الناتج من حركة مشيهم ذهاباً وإياباً على طول الصب الإسمنتي للقاعة، والغبار المتصاعد من أرضية السجن، والدخان، كل هذا يكفي دفئاً لمواجهة برد الشتاء.. هذا داخل السجن، أما خارجه، فهو العراق في نهاية عام 1990، والحديث عن ضربة أمريكية ومعها ثلاثين دولة ضده، جار على قدم وساق.. وإذا انتصر العراق في حرب الثمان سنوات مع إيران! وانتصر في حربه ضد الكُرد بعمليات الأنفال، بعد أن أباد 182 ألف مدني، وأربعة آلاف قرية..  وإذا انتصر بغزوه الكويت، وضمّها للعراق، باعتبارها المحافظة التاسعة عشرة له، كما يقول!! فإن انتصاره هذه المرة مشكوك فيه، والجميع على قلق وترقب لما ستؤول إليه الأمور..

 

أما نحن في سجن الحارثية، فحالنا جعلنا لا نبالي بأيّ أمر، إلّا خروجنا من هنا، من سجن تسفيرات الحارثية.. لا يهمنا لا ضرب العراق، ولا من سينتصر! فكرنا مشغول بخروجنا من هنا، سواء كان ذلك الخروج يأخذ بنا لجبهات القتال، وللموت الحتمي هناك! أو الحُلُم بأن يفتح خروجنا من هنا طريقاً آخر للهروب نحو الشمال، فالجبال.. فلم أجد نفسي في العراق إلّا هارباً.. أشعر بحاجتي الشديدة لهواء بارد قوي يدخل القفص ليذهب بالدخان والغبار خارجاً، ويبقيني في برده داخل القاعة كي لا أختنق.. الوقوف بالقرب من الجدران، وفوقي مباشرة نصف الجدار المفتوح مع الخارج، والمسدود بالقضبان الحديدية، بعيداً عن وسط القاعة، وضجيج مشي المساجين، هو وجهتي المفضلة في سجن الحارثية..

 

لم يقدّموا لنا الأكل في أيامنا الثلاثة في تسفيرات الغزلاني.. كانت صناديق من البسكويت والبرتقال ترسل للبيع في وجبة صباحية وأخرى مسائية.. ما كنت أحمله من مال في رحلة الهروب، يكاد لا يكفي لشراء برتقالة‌ أو بسكویت كل صباح وكل مساء، فيما إذا طال المقام هنا.. كان عليّ أن أدبّر أمري، بما لديّ من نقود.. أتفحّص اللحظات التي يدخل شيء من أكل إلى داخل القاعة، هنا في الحارثية.. يجبرني الجوع على ذلك.. ها هو بائع قد دخل، هو مثلما في الغزلاني: برتقال وبسكويت.. المساجين ركضوا إليه دون انتظام.. لا يمكنني الوصول إليه وسط هذا الكم من المساجين المحتشدين.. جلست منكمشاً على نفسي متابعاً المشهد.. كي تأكل لا بد من الانتظار حتى تحصل على برتقالة أو بسكويت مقابل مبلغ من المال..

 

أما الشرب، فهناك في آخر القاعة، الزاوية اليمنى، حنفيات مياه تحتها شبه بحيرة من بول المساجين المتجمع، ففتحات تسريبها أسفل الجدار، لا تتسع لكمية البول الكبيرة، فتبقى متراكمة.. يتجنّب السجناء الاقتراب من هذه الزاوية إلا عند التبوّل.. هذه الزاوية الوحيدة من زوايا القاعة الأربع يتجنب السجناء الاقتراب منها.. أما الزوايا الأخرى فاكتضت بالسجناء وحقائبهم.. أما للتغوط، سألت سجيناً قبلي، فقال: "هناك تواليت خارج القاعة في ساعة واحدة في اليوم يسمح فيها للسجناء بالخروج إليها وجبة بعد أخرى، فعلى السجين هنا أن يدبر أمره بالتغوط مرة واحدة فقط في اليوم". ما سيساعدنا على ذلك هو قلّة الأكل.. أما التبوّل، فما شاء من المرّات في الزاوية هناك تحت حنفيات مياه الشرب!!

 

الكل هنا سيتحمل بقاءه لمدة الأربع والعشرين ساعة، بأية طريقة كانت، وكيفما انقضت.. فهي المدة التي أعد لها برنامج خاص من قبل ما يسمّى بالانضباط العسكري.. حسب البرنامج يجب أن لا يبقی سجين أكثر من هذا الوقت، إلا وهو في وحدته العسكرية، خارجاً من سجن التسفیرات.. كنت أشك فيما كان يتحدّث عنه العساكر، عمّا يجري في سجني الغزلاني والحارثية، من عقاب للمخالفين والهاربين.. لكنني الآن تيقنت أن الوضع أفضع ممّا كان يتحدثون عنه.. فهنا العقوبة والإهانة فنٌ يمارسه الانضباط العسكري بإتقان.. الحارثية تكاد تنسيني أيامي الثلاثة في سجن الغزلاني، تنسيني وساخَته، كآبته، ضيقه، برنامجه العقابي: ضربات الانضباط على الخدود، الركلات، الضرب بالكيبلات.. الإهانات..  تنسيني تلك الوجوه الشاحبة المليلة للمساجين وهم يهانون، وتلك الوجوه الغاضبة العابسة للانضباط وهم يضربون.. استقبالنا أمام باب الحارثية، ودخولنا سجنه، يجعلني لا أتذكر حقيقة ما كان يجري في الغزلاني، ونحن الآن على بعد تسعة وعشرين سنة من ذلك التاريخ.. لكن التسع والعشرين هذه تصبح ملغاة وأنا أتذكر الحارثية!!

 

بقائي تجاوز الأربع والعشرين ساعة المحددة.. طال بي المقام في الغزلاني ثلاثة أيام، وفي الحارثية أسبوعاً.. كلما فرغت القاعة من المساجين صباح كل يوم، كنت أجد نفسي وحيداً فيها، ليكتمل الستمائة سجين حتى الليل.. كانت المفارز تنتشر على طول البلاد وعرضها لیكمل عدد الجنود المعتقلين بحجج مختلفة، حصة الحارثية من هؤلاء "ستمائة" سجين لكل يوم! يسفّر جميعهم صباحاً، لأبقى وحيداً، مشتاقاً للمغادرين، متفحّصاً في ملامح وجوه القادمين!! لا أملك فراشاً غير حقيبة ملابسي، فيها طخم ملابسي العسكرية، أمّا ملابسي المدنية فأنا أرتديها، فانا كما في هيئة اعتقالي الأول بالموصل، بنفس الملابس: بنطول شتوي ثخين، تحته تركسوت رياضي، بلوز صوفي على قميص شتوي، تحت معطف عسكري كنت أخرجته من حقيبتي ولبسته صباح اليوم عند نقلنا من سجن تسفيرات الغزلاني من الموصل.. يكفي بهذا المعطف أن تتقي البرد في أشد ظروفه.. فرشت المعطف على الأرض.. حاولت أن يغطّي البنطول الذي نزعته المساحة ما بعد المعطف.. اكتفيت بالتركسوت.. صنعت من الحقيبة التي فيها بسطالي العسكري، وبعض ملابسي الداخلية، وأدوات الحلاقة، وأدوات تلميع البسطال، مخدّةً، ووضعت تحتها حذائي المدني.. لم أنزع زوج الجواريب السوداء الثخينة التي كنت لابسها، تهيئت لحالة هروب جديدة.. فبعدما فشلت في هروبي المادي الحقيقي، عسى ولعلّ أنجح في الهروب بروحي من هنا، من سجن الحارثية، فأنام بعد تعب جسدي ونفسي وروحي.. بل بعد هزيمة جسدية ونفسية وروحية..

 

بدأ الصف بتنفيذ الإيعاز.. صعدوا على الصف الذي أمامهم، سار أحدهم على جسدي، واضعاً قدمه على رأسي، لو لم تكن الأرض من الأسمنت، لأدخلني الأرض كما يدخل مسمار يضرب بمطرقة في الخشب! لكنني بقيت، قاومت بعد أن تعرّج جسمي وانكمش على نفسه

آه كم هو موحش أن تنهض من نومٍ سرقك من عالمك المتعب، لترى نفسك ثانية في سجن تسفيرات الحارثية للانضباط العسكري السيء الصيت، وترى الانضباط يركض على جسدك نافخاً في صفارة بفمه، بكل ما أوتي من قوة، نفخٌ قادمٌ من أحشائه، لإحداث ضجيج وضوضاء تحت عنوان (الإزعاج الليلي).. ضارباً على أجسادنا التي ما يزال النوم لم يتركها، بالكيبلات الكهربائية، وقطع من الصوندات، قطّعت وجهزّت للضرب على أجساد المساجين.. كان (الإزعاج الليلي) من فقرات البرنامج العقابي! ألهبت ضربة ظهري، لم أعرف هل كانت من كيبل كهربائي، أو من قطعة صوندة مياه.. كأن شيشاً ساخناً على النار مرّ عليها.. أحدثت أنيناً على هيئة صرخة عالية صدرت مني.. لأوّل مرة أصرخ هكذا.. لم أكن أعرف بأن لديّ قدرة إطلاق صرخة بهذه القوة.. الصرخة جلبت ضربات أخرى، فكان لا بد للصرخات أن تخفت بعد ذلك تدريجياً مع استمرار الضربات، خفتت حتى الصمت، فأصبح الأنين داخلياً لا صوت له.. كلما خفّ الأنين كان أكثر إيلاماً، فالصرخة العالية كانت تأخذ جزءاً من ألم الضربة معها إلى الهواء، والصرخة الصامتة تنقل الألم إلى العمق الداخلي فتزيد الألم ألماً..

 

رغم ما حلّ بي، لم يمنعني ذلك من مشاهدة بعض من لم يقاوم فأغمي عليه، يسرع الانضباط إليهم لإخراجهم في حمّالات إلى خارج السجن، هل عولجوا أو ماتوا؟! لم أعرف حينها، ولا أعرف الآن.. كيف سيأتيك النوم بعد هذا التسونامي من الإزعاج الليلي الذي حلّ علينا ونحن نيام في الساعة الثانية ما بعد منتصف الليل.. الآن يأتينا الأمر بالخلود إلى النوم ثانية! لا بد أن ننام حتى ولو كان تحت ضربات السياط.. كانت الخامسة فجراً، عندما حلّ التسونامي المزعج من جديد.. رتّبونا في صفوف عرض، عشرة وراء عشرة.. وصفوف طول: ستّين بجنب ستين.. لتشكيل كردوس بستمائة سجين، تحت ضغط وابل الضربات والركلات من جميع الجهات.. كان الإيعاز بالامتداد على بطوننا، ثم بالزحف.. تحتنا الأرض نمسحها ببطوننا، وفوقنا الضرب بالكيبلات والصوندات، والصيحات الحاملة لكل سب وشتم، قادمة من الانضباط، تبدأ بالقشامر ولا تنتهي بالكَواويد!! هكذا تمّ مسح كامل أرضية القاعة.. القريبون من زاوية البول، سلّمهم الانضباط قطعاً من الإسفنج يدخلونها في بحيرة البول، فتمتلأ بالسائل، ثم ترفع إلى أواني القُصع، فتعصر فيها، لتمتلأ القصع بالبول، وتنقل خارجاً.. تمّ إفراغ البحيرة بالكامل، ومسحها بالمياه.. رشّت القاعة بالمعطّرات المختلفة، لإزالة رائحة البول الذي كان قد غطى على الهواء داخل القاعة، استعداداً لقدوم آمر المعسكر للتعداد الصباحي في الساعة السابعة..

 

السابعة، وما أدراك ما السابعة.. الكردوس المؤلف من ستمائة جندي مسجون.. يأتيه الإيعاز للصفوف الفردية بـ: (إلى الوراء دُرّ)، فتكون تلك الصفوف في مواجهة الصفوف الزوجية.. هكذا كل سجين بمواجهة الآخر.. بحضور آمر المعسكر، أعلى سلطة هنا.. يأتي الإيعاز برفقة الصافرة أن يضرب كل جنديٍ الجنديَ الذي أمامه بالضرب على خدّه.. يضربُ السجينُ السجينَ!! أولاً كانت برفقة الصافرة.. كل صافرة ضربة.. فكان يرافق كل صافرة ستمائة ضربة في لحظة واحدة.. ستمائة ضربة في ضربة واحدة.. صافرة – ضربة.. صافرة – ضربة..

تمتلأ القاعة بأصوات الضربات، تأتي الإيعازات من الانضباط المحيط بكل الكردوس: أقوى.. أقوى.. أقوى.. فتتقوى الضربات، وتتسارع.. ليصبح الإيقاع مالئاً القاعة الجملون، ثم تترك الصافرة والإيعاز.. وتستمر الضربات.. چريق.. پريق.. چريق.. پريق.. چريق.. پريق.. آمر العسكر مبتسم.. مرتاح من المشهد.. الانضباط متحمّسون، كأنهم أنهوا إنتاج فلم هوليودي، سينافس ليكون الأول، يتفرجون عليه الفرجة الأولى.. تنتهي الفقرة وسط إنهاك وتعب شديد، ووجوه محمّرة شاحبة، لا أحد يريد أن ينظر في وجه الآخر.. ما أن تحل الساعة التاسعة صباحاً حتى یأتي إيعاز (الزاوية).. هذه الكلمة تقشعر منها أبدان المساجين، فهولُها نُقل إلى الجنود وهم في وحداتهم، عن طريق من مرّ منهم في الحارثية، وكان له قدر ليلة هنا.. قد سمعت عنها سابقا، كنت على قلق الترقب لسماعها وأنا الآن في الحارثية!

 

ها هو الإیعاز بـ (الزاویة) قد خرج بعد إطلاق صافرة رهيبة أحدثت صمتاً سبق الضجيج.. بدأ ركض سباق المائة متر بين المساجين الستمائة نحو الزاوية المقابلة لزاوية البول.. أركض مثلهم.. سقطت مرّة ووقفت أخرى.. بين سقوط ووقوف تصل إلى ظهري ضربات الانضباط.. ما زلت لا أفرّق بين ضربة كيبل كهربائي، أو صوندة مياه.. لكن أياً كانت فهي تلهب الظهر، وترسم خطوطاً يسيل منها الدم.. السباق هرباً من ضربات سياط الانضباط الذين بدورهم يركضون باتجاهنا نحن المساجين الهاربين.. صخب الركض، والصرخات الناتجة من الضرب، والصرخات التي تأتي استعداداً لاستقبال الضرب، تجعل المشهد أكثر رعباً داخل القاعة.. يهرب البعض بسرعة فائقة كي لا يكونوا في واجهة الضرب.. من في الصفوف القريبة من الزاوية البعيدة عن الانضباط، يحاول أن يتباطأ كي لا يصل للأخير فيقع تحت ضغط الهاربين من الضرب، فيسقط تحت أقدامهم..

البعض، من جهة، ينحصر في الوسط بين الهاربين بسرعة وقوة تجنّباً للضربات، ومن جهة أخرى، بين المتباطئين في الأخير خشية الانحصار في الزاوية.. بين هذه المواقف الثلاثة يزداد الضغط تحت الضرب المستمر والعويل المتصاعد، على الكومة البشرية المؤلفة من ستمائة إنسان، باتجاه الزاوية.. يستمر الضرب حتى تكبس الكومة البشرية أكثر في الزاوية.. الصيحات لا تتوقف نتيجة الضرب المباشر، وصيحات أولئك الذين انحشروا في المؤخرة، الذين أصبح بينهم وبين الاختناق القليل.. الصفوف الأمامية تتكوّم على نفسها، بعد توقف التقدم، معرّضة ظهرها للضرب، ووجهها بين أقدامها، وهكذا الصفوف التي تأتي وصولاً للأخير، حيث تجمّد هناك المساجين واقفين على أقدامهم، يقاومون الضغط القادم من الأمام.. بعد صافرة أحدثت صمتاً آخر بعد العويل.. جاء الإيعاز الجديد لجنود الصف الأمامي بالوقوف على قدميه.. ثم إلى الوراء دُرّ.. أصبح الصف بمواجهة الكومة البشرية، وجهه باتّجاه الزاوية.. استمر الإيعاز بالتقدم على أجساد الكومة البشرية، تحت وابل الضربات التي لا تتوقف..

 

استلمت كتابي، دون أن يكون لديّ أي مال، لأؤجّر سيارة أذهب بها إلى مقصدي.. لا یهم ذلك ما دمت خرجت من السجن.. سأدبّر أمري حتى ولو تسوّلت في شوارع الموصل لأجمع مبلغاً أصل به لمبتغاي..

بدأ الصف بتنفيذ الإيعاز.. صعدوا على الصف الذي أمامهم، سار أحدهم على جسدي، واضعاً قدمه على رأسي، لو لم تكن الأرض من الأسمنت، لأدخلني الأرض كما يدخل مسمار يضرب بمطرقة في الخشب! لكنني بقيت، قاومت بعد أن تعرّج جسمي وانكمش على نفسه.. مرّ عليّ ووصل إلى من ورائي.. هكذا جاء الإيعاز لصفّنا أيضاً، وربكنا على من أمامنا وسرنا للأخير.. وجاء الآخرون.. حتى تكوّن هرم بشري قاعدته بالأسفل وقمّته وصلت السقف.. انبسط الانضباط من مشهد الهرم الذي تشكّل بضرباتهم.. يبتسمون.. يضحكون.. ومن تشكّل منهم الهرم يرسلون عويلهم وأنينهم لتكملة المشهد داخل قاعة سجن تسفيرات الحارثية..

 

الآن لا بد من عملية انهيار الهرم، هو جزء من هذه الفقرة، سمعت عنها، ويترقب الكل في هذا الهرم عملية الانهيار! حيث قيل عنها الكثير، وإنها الجزء الأصعب من عملية (الزاوية)، وإن البعض يغمى عليهم، ويموت البعض، وتبدأ سيارات إسعاف السجن بالعمل لنقل من ينهار.. إذن عليّ أن اقاوم، وعليّ أن لا أنهار.. بدأ الهجوم على الهرم من قوسه الأمامي من خمسة عشر انضاطا.. صعدوا على قاعدة الهرم.. يا إلهي إنهم يضربون بكل قوة، بدون رحمة، يصعدون على هذا الهرم البشري مثلما يصعدون على أي درج عادي، بسرعة سباق المائة متر.. وصولاً إلى قمة الهرم الذي بدأ ينهار على بعضه البعض.. انهار الهرم، بين من قاوم ولم يغم عليه، يحاول الابتعاد عن الزاوية نحو جدران القاعة، ومن يغمى عليه ينقل خارجاً، لتنتهي فقرة الزاوية..

 

ليأتي بعدها تسفير الجنود إلى وحداتهم المنتشرة في طول البلاد وعرضها، لأبقى أنا، وتستغرب إدارة السجن من ذلك، فتبحث في المشكلة، فإذا بهم يرونني سجيناً لديهم دون أوراق ولا كتاب ولا أوليات، كأنني جنٌ نزلت عليهم من الفضاء.. تفاجأ آمر المعسكر برؤيتي وحيداً دون تسفير.. سأل.. وجدت إدارة السجن نفسها محرجة، كوني لا أملك أيّ أوليات لديهم.. قلت لهم: جئتكم قبل أسبوع من الموصل!! ذهب الآمر معاتباً.. جاءت إدارة السجن مستغربة، لا تدري ماذا تفعل بشأني.. تحوّل ليل بغداد إلى نهار.. ظلام السجن تحوّل لنور.. كأنّ برقاً برق داخل القاعة.. الأرض تهتز من تحتنا.. الجدران ترسل غبارها إلى داخل القاعة بعد أن بدا للعيان ارتجافها.. صافرات الإنذار تدوّي، لتملأ سماء بغداد ضجيجاً ورعباً.. إنها الضربات الأمريكية الأولى على بغداد..

 

المساجين الجدد يصفّرون فرحاً.. يصفّقون كما لو أن بطل فلم سينمائي قدم لإنقاذ المظلومين، فيصفّق من في القاعة من الجمهور ويصفّر!! صباحاً جاءت إدارة السجن متوترة، قالت إن أمراً صدر من رئيس الجمهورية بتفريغ قاعات تسفيرات سجون الجنود، ليتوجّه الجميع فوراً لوحداتهم.. لا يعرفون من أيّ وحدة أنا.. فلا يملكون أولّيات.. أعادوني إلى سجن تسفيرات الغزلاني في الموصل، ليعيدوني بأولّيات جديدة إلى الحارثية.. في الغزلاني تفاجأت إدارة السجن، ظنّت أنني اعتقلت من جديد، دون أن تعرف بأنني لا زلت لم أرسل لوحدتي العسكرية.. ليلاً تعرّض المعسكر للضربات الأمريكية، مثلما حصل في بغداد.. جاءت الأوامر للموصل أيضاً بتفريغ السجون.. أخرجوني بكتاب رسمي موجّه لوحدتي العسكرية، لأتوجه مباشرة إلى هناك دون مأمورية ترافقني كالعادة، ودون أن أمرّ بالحارثية.. الظروف أصبحت فوق طاقة وحسابات إدارات السجون..

 

استلمت كتابي، دون أن يكون لديّ أي مال، لأؤجّر سيارة أذهب بها إلى مقصدي.. لا یهم ذلك ما دمت خرجت من السجن.. سأدبّر أمري حتى ولو تسوّلت في شوارع الموصل لأجمع مبلغاً أصل به لمبتغاي.. سرت في شوارع الموصل، أتنفس الصعداء.. في بوابة السجن التقيت بمفرج عنه آخر، كردي مثلي.. أخذت منه مالاً لآخذ وجهتي (كراج نقليات الشمال).. ركبت فيها سيارة أجرة باتجاه الشمال.. لا الجنوب، ولا الوحدة العسكرية.. لتكون هي آخر مراحل هروبي من الخدمة.. وليكون هروبي الأخير..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.