شعار قسم مدونات

من جيل الايباد إلى الأجيال السابقة.. رسالة رجاء

blogs جد

من علامات النضج الفكري هي أن تستطيع التعرف على فكرتين متناقضتين في نفس الوقت، دون أن تنتصر لأية واحدة فيهما حد الموت، وتصدر حكما نهائيا حول صحة إحداهما عن الأخرى، إلا أن الثقافة التي نكبر فيها قد تكون عائقا أمام هذا النضج، وهي بطبيعتها تدعونا للتمسك بكل الأشياء التي وجدناها، والعودة الدائمة إلى جذورنا، والتغني بعرقنا الشامخ والاعتزاز به، فتشكل بذلك واقعنا الافتراضي الذي نعيشه، لا يختلف عن الواقع الافتراضي الالكتروني، ونقوم بتحجيم أنفسنا على واقع محدد سلفا وثقافة محدودة، وما هذا إلا تحجيم للإنسانية.

  

ولكي نصل إلى هذا النضج نحتاج الكثير من الشجاعة لكي نتحاور مع الأجيال السابقة، ولهذا سنتجرأ على مساءلتهم وتقديم بعض التوجيهات وإن كان من الغريب أن نقوم بتقديم النصائح للأكبر منا سنا، لكوننا اعتدنا دائماً أن يقوموا هم بتوجيهنا ونصحنا، لكن ماذا لو قمنا نحن الشباب بتقديم بعض النصائح والملاحظات اليوم لكبار السن، ليس انتقاصا من تجاربهم بل رغبة في تقريب الرؤى بيننا، فنحن نحتاج لأشياء قد تبدو لكم تافهة ولا معنى لها، لكنها مهمة وسنشرح لكم كيف؛ نحن بحاجة لثقتكم فينا وإيمانكم بنا، أكثر من كثرة التوجيه والأوامر.

 

أحلامنا مهما كانت طبيعتها فهي ملكنا، وليس من الجميل أن تستصغورها أو تستصغروا قدرتنا على تحقيقها فإنّا لا نملك سواها نحيا لأجله، نحن شباب قد نتهور أحيانا ولا نصيب، وقد يؤدي بنا اندفاعنا الزائد أحيانا إلى الخسارة، لكن حتى إذا لم تستطيعوا الوقوف بجانبنا لا تقفوا في طريقنا وتشيدوا فيها العوائق والعراقيل.

   

تعلمنّا عندما كنا أطفالا أن نحترم الأكبر سنا منّا، والأكثر أصالة عنّا، لكن هذا لا يعني أن نطمس أنفسنا، لكي نكون نسخا عنكم

يجب أن تعلموا أيضا أننا نعلم كذلك أن لديكم من الخبرة الكثير، لكن لا تستخدموها كذريعة لفرض مواقفكم، فقد اكتسبتموها جراء تكرار الأخطاء وأنتم في مثل عمرنا، فدعونا نخطئ ونكتسب خبرة أيضا، لن تنتهي الحياة إذا ما حاولتم الابتعاد عن سرد مميزات زمانكم الذهبي المستنير، وحاولتم مواكبة التطور الحاصل، أو على الأقل دعونا نواكبه نحن، فليس من العدل مقارنة جيلكم بجيلنا، لسبب بسيط هو اختلاف الماضي عن الحاضر.

 

المشي مسافات طويلة في شدة الحر والشتاء من أجل طلب العلم ومن أجل جلب مياه الشرب، انعدام الكهرباء، الدراسة على ضوء الشموع، انعدام طرق المواصلات، النوم والاستيقاظ الباكر جداً، العمل من أجل تأمين احتياجات الأسرة والدراسة والعمة الأرملة، السفر لبلدان أخرى لجلب المال وعدم تحمل مرارة الغربة والعودة لحضن الوطن، ثم الزواج في سن مبكرة من ابنة العم، عدم إتمام مرحلة التعليم لأن المرأة مصيرها لبيت زوجها، فرض الأهل العقوبات القاسية عليكم ورغم ذلك تطأطئون رؤوسكم خوفا منهم واحتراما لهم، إجبار الأهل لكم لكل شيء، تدخلهم الدائم في اختياراتكم ودون اعتراض منكم، لم يكن لديكم مغريات كثيرة، طعامكم محدود غير متنوع لكنه ألذ، ولا تضعون رؤوسكم ليل نهار في هذه الهواتف المملة.

 

كل هذه الأمور لا نتجاهلها ولا نتصنع معرفتنا بها لأنننا نعرفها حقا، لكنها لم تعد تجدي نفعا معنا، قد تستطيعون قصّها فيما بينكم في جلسات الأعياد السنوية، لكن بالنسبة لنا الأمر أصبح مُثار للضحك، لا أقصد الاستخفاف بما مررتم به، ولا نقصد الإساءة لكم، لأجدادي أو للأجيال السابقة، كل ما في الأمر أننا الآن في زمن الوفرة والإمكانيات العالية، لذلك لن نفهم هذا الأمر ولن نشعر بما مررتم به، لكننا في المقابل نملك تحديات مغايرة، تحديات ولّدها عصرنا الحالي، فكيف تريدون منّا أن نواجهها بحلول قمتم بها في عصر البارحة، أخبرونا بما تريدون لكن فليكن ذلك من باب المعرفة بكم وبما مررتم به، ليس من باب الاتعاظ بكم واتخاذ نفس حذوكم.

 

نرجوكم أن تدعونا نختار، دعونا نختار ما نبتغيه، وعلمونا كيف نتحمل عواقب ما اخترناه، إننا بحاجة لإصغائكم، بحاجة لتفريغ ما نحمله من مشاعر وأحاسيس وحتى تجارب سيئة قبل أن تصدروا أحكاما قبلية عنّا، وتنعتون بأننا أسوء الأجيال. لنكن صريحين فكرة المقارنة من أسوء الطرق، لأنها محبطة للغاية، ولا تقدم لنا أي تحدي أو تشجيع كما تقولون، دعونا نشعر أنكم تأملون خيرا فينا، وسنجعلكم فخورين بنا.

  

تعلمنّا عندما كنا أطفالا أن نحترم الأكبر سنا منّا، والأكثر أصالة عنّا، لكن هذا لا يعني أن نطمس أنفسنا، لكي نكون نسخا عنكم، نحن أيضا نطلب منكم أن؛ احترمونا، قدرونا، ادعمونا، اعطفوا علينا، امنحونا كثيرا من الحب، نحن بحاجتكم جداً ولا بديل لنا عنكم، الحقيقة أننا نريدكم أنتم. عندما نصل إلى مثل سنكم، دعونا نتذكر أنكم كنتم قدوة لنا وسندا دائم.

 

في النهاية.. إننا نحبكم جداً، رغم أن الفجوة بين العمرين كبيرة، لكننا نطمع في أن تحتوونا وتعونا أيضا، سنحاول أن نبني بيننا الجسور ونهدم كل السدود، لكن بدوركم أميطوا الأذى عنا فإننا نحمل شعلة أحلامنا معنا، لا تحرقونا بها.. بل دعونا نضيء الطريق أمامنا وأمامكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.