شعار قسم مدونات

"The Intouchables".. ما يتعلمه الأغنياء من الفقراء مجانا!

BLOGS THE INTOUCHABLES

في عام 2011 طلق الفرنسيون السياسة والرياضة والاقتصاد واتجهوا كلهم إلى قاعات السينما لمشاهدة فيلم "المنبوذان" (The Intouchables) الذي صنع الحدث آنذاك في بلاد فولتير، هذا الفيلم الذي حقق إيرادات بلغت 360 مليون يورو محطما جميع الأرقام القياسية رغم تكلفة إنتاجه التي لم تتجاوز 10 مليون يورو من نوع الدراما الكوميدية بإخراج أوليفي نكاش وإريك توليدانو بعد أن قاما باقتباس سيناريو الفيلم من قصة حقيقية تروي يوميات الرجل الثري (فيليب) الذي يعاني من شلل رباعي بسبب حادثة قفز من المظلات جعله قعيد كرسي متحرك مع الشاب الإفريقي (إدريس) الفقير الذي يصبح خادم فيليب بالصدفة ثم صديقه المقرب رغم كل الاختلافات المادية والاجتماعية وطريقة تفكيرهما المتباينة جدا.

نقرأ على غلاف الفيلم التجاري (أحيانا يفهم الإنسان نفسه فقط عندما يقتحم عالم إنسانٍ آخر) وهذا بالضبظ ما يسرده العمل -على مدار ساعتين- بين الإثنين وكيف يؤثر كلاهما في الأخر وكيف يكتشف كل منهما نفسه في عالم الآخر بسيناريو مقتبس حقيقي وموسيقى تصويرية جميلة للإيطالي (لودوفيكو أناودي) وممثلين رائعين هما الفرنسي (فرونسوا كلوزي) والسينغالي (عمر سي)، فنجد الثنائي في هيئة أستاذ فقير هو الفتى إدريس الذي يعطي دروسا بالمجان للتلميذ الغني فيليب في علم الحياة ويأخذ بيده ليلقنه أشياء لا يشتريها المال ولا الجاه!

الشهادات الأكاديمية تكذب أحيانا:
في مجمل الأمر يحاول منتجو الفيلم إيصال فكرة أن البراغماتية شيء يعرفه الأغنياء نظريا لثقافتهم وتعليمهم العالي الذي يحظون به لكن الفقراء هم من يطبقونها عمليا دون أن يعرفوا ذلك

يبدأ الفيلم بطابور كبير لأشخاص يريدون التقدم لشغل وظيفة الخادم عند فيليب الرجل الثري المشلول، كلهم يحملون شهاداتهم معهم عدا إدريس الأسود الذي لا يملك شيئا فقد انتهى لتوه من عقوبة سرقة محل مجوهرات، يخترق القوانين ويدخل متجاهلا البروتوكولات ثم يطلب من السكرتيرة دون تحية أن توقع له أوراقه حتى يستفيد من النفقة الإجتماعية، بعد نقاش حاد مع السكرتيرة وفيليب يخبره هذا الأخير بأن يعود غدا. لكنه يُفاجئ صباحا أنه قد تم اختياره للمهمة بالرغم من كل ما كان يحمله المترشحون الآخرون من شهادات في التربية والتكوين للمعاقين، فيبدأ بتعلم ما يجب عليه القيام به روتينيا من أعمال يرفضها إدريس لكنه مع الوقت يقبل بها ويقوم بها ليثبت أن الشهادات لا تعني الكفاءة دوما.

الدعابة حرفة لا يتقنها الأثرياء:

بمرور الأيام يتأقلم إدريس مع الحياة في بيته البرجوازي الجديد ويبدأ بتوزيع حسه الفكاهي على البيت المليء بالجدية، فالفيلم يعكس علاقة الفقر بالدعابة والعفوية من خلال شخصية إدريس الذي يسترق النظر إلى الجميلة (ماجالاي) ويمازح (إليسا) إبنة فيليب وصديقها ثم مع والدها الثري الذي يتأثر بأسلوب حياة إدريس القائم على اللامبالاة والاستمتاع بالحياة دون التفكير المفرط في المشاكل وبعيدا عن الجدية والصرامة وحتى الفوضى التي يراها عمال البيت في غرفته الخاصة شيئا غريبا، فهو يدلك رجلي فيليب مستمعا للموسيقى كما أنه يقرأ لفيليب رسائله بطريقة مضحكة وإيحائية، يناوله الهاتف كما لو أنه قادر على المشي، يسأله عن كيفية ممارسة الجنس وهو مشلول. يحاول إدريس أيضا أن يعلم فيليب كيف يتخلى عن الرسمية في معاملاته مع الآخرين خارجا فيضرب جاره الذي يركن سيارته أمام باب البيت ويتهرب من الشرطة كي لا يدفع غرامة السرعة المفرطة فالفيلم يوضح لنا أن هناك أشياء يمكن أن يتعلمها الأغنياء من الفقراء حقا.

الفن والأدب.. شيئان تافهان!

يجسد الفيلم فكرة اختلاف الأذواق بين الفقراء والأغنياء ويذهب إلى التباين الكبير في نظرتهم إلى الأشياء خصوصا فيما تعلق بالفن والأدب والموسيقى، ففي إحدى المشاهد في متحف الفنون التشكيلية ينظر فيليب إلى إحدى اللوحات لمدة ساعة رآها إدريس أشبه بقرن من الزمن ثم يجن جنونه عندما يخبره سيده أنها لوحة مليئة بالحركية والصفاء وهنا تظهر سخرية الفقراء ونظرتهم إلى الفن كشيء تافه وتجاري عندما يتهم إدريس فيليب بالغباء لأنه سيدفع 40 ألف يورو لأجل لوحة بيضاء تحتوي في منتصفها على نزيف أنف الرسام الذي مسح دمه عليها.

يضحك إدريس كذلك على رسائل فيليب الغزلية المليئة بالصبغة الأدبية إلى حبيبته التي لم يجرؤ على اللقاء بها منذ ستة أشهر مليئة بالشعر والقافية، كما يسخر من عرض الأوبرا الذي شاهده مع فيليب لرجل يرتدي زي شجرة ويغني فينفجر وحده ضاحكا لكونه يختلف عن الأثرياء الذين يملؤون القاعة. يظهر الفارق أيضا في عيد ميلاد فيليب حين يضجر إدريس من مقاطع موسيقاه الكلاسيكية التي تذكره إحداها بطوابير وكالة باريس للعاطلين عن العمل فيقرر أن يجلب مكبر صوت ويشغل الموسيقى الصاخبة التي تعجب الجميع ليرقصوا على أنغامها فالموسيقى التي لا تجعلنا نرقص -مثلما يقول إدريس- ليست موسيقى.

البراغماتية يعرفها الأغنياء ويطبقها الفقراء:

في مجمل الأمر يحاول منتجو الفيلم إيصال فكرة أن البراغماتية شيء يعرفه الأغنياء نظريا لثقافتهم وتعليمهم العالي الذي يحظون به لكن الفقراء هم من يطبقونها عمليا دون أن يعرفوا ذلك، يتجسد هذا في شخصية فيليب -على غرار جميع الأثرياء في عالمنا- المترددة على الدوام والمليئة بالشك فهو يخاف أن يطلب مقابلة حبيبته ويخاف أن يؤدب ابنته القبيحة مع عمال البيت كما أنه ينفق أمواله على أشياء لا نفع لها فيبالغ في تقديس الفنون والأدب كثيرا وينسى الجانب العملي ويفتقر لعنصر الإندفاع والشجاعة هذا هو الشيء الذي يأتي به إدريس القادم من أحياء باريس البائسة ليمنحه إلى فيليب معلما إياه المخاطرة والتقدم في حياته بدل البقاء طوال الوقت في منطقة الأمان فيحثه على الاتصال بحبيبته وينظم لهما لقاء كما أنه يدعوه إلى اتخاذ الصرامة في تربية ابنته الوحيدة، هذه الأشياء وأشياء أخرى تجعل فيليب يؤمن بأنه يجب أن يتجاوز ضعفه وأن الثروة التي يمتلكها ليست كل شيء بل إن هناك دروسا كثيرة تعلمها من شخص زنجي معدم.

لا مادية ولا مثالية في عالم الصداقة:

الشيء الأروع بجانب السيناريو المليء بالكوميديا هو الحوار الجيد والواقعي الذي يحدث بين الإثنين بعيدا عن المثالية المفرطة في العلاقات، فلا يلمس المشاهد أي تصنع أو تكلف ما بين إدريس وفيليب بل كلاهما يتعامل مع الآخر بناء على العفوية التامة والصراحة ومن صور ذلك السخرية التي يقوم بها إدريس اتجاه فيليب في ما تعلق بإعاقته، هذه الأشياء التي نجدها في الواقع كثيرا، والتي لا يأخذها فيليب بمحمل الجد باعتبارها نابعة عن عفوية مطلقة. كما نجد في الفيلم كمية كبيرة من العاطفة المتمثلة في الصداقة كعلاقة متينة وقيمة اجتماعية تعتبر صورة من صور الإنسانية الراقية بعيدا عن التأثير المادي من خلال الثنائي اللذين يستمتعان بوقتهما فيدخنان معا ويتجولان معا في ليل باريس البارد ويلعبان بالثلج ويعيشان تجربة الطيران الشراعي كما يكمل كلاهما الآخر فحتى فيليب يوقظ في إدريس موهبة الرسم التي لم يكن الأخير يعلم بها ثم يبيع لوحته بمبلغ كبير.

الأشياء الجميلة لا تدوم!

تنتهي الأيام الخوالي ويعود إدريس إلى عائلته الإفريقية، فتجتاح فيليب مشاعر الاكتئاب وفي كل مرة يأتي بخادم جديد يبحث فيه عن روح إدريس التي لا يجدها، وفي الوقت الذي يقضي فيه هذا الأخير حياته القديمة في أحياء الأفارقة الفقيرة بضواحي باريس يصله نبأ سيده الحزين ويدرك أنه بحاجة ليعرف أن الأمر لا يمكن أن يدوم، فيعود ويبث فيه الفرح ثم يحلق له ذقنه ويذهب به إلى فندق فخم ليتركه مع الشخص الجدير بإكمال حياته معه. ينظر فيليب إلى النافذة، يرى صديقه إدريس يلوح بيده مودعا وداعا لا رجعة فيه، يدير ظهره راحلا ليمشي على عتبة البحر الذي يقاسمه بؤسه في يوم كئيب مليء بالغيوم.. والحزن.

بقي أن أخبرك أن بطلي الفيلم الحقيقيين (فيليب) و(عبدول) يعيشان في المغرب الآن بعد أن افترقا وقد أسس كل واحد منهما عائلته الخاصة، كما أن النسخة الأمريكية للفيلم -لمن يحبون الإنجليزية- قد صدرت مطلع هذا العام بعنوان (The Upside) مثلما صدرت نسخ عديدة في عدة دول، بقي أيضا أن أتمنى لك مشاهدة ممتعة لهذه التحفة الفنية وأذكرك أخيرا بقول فيليب في معهد الفنون: الناس يهتمون بالفن يا إدريس لكونه البصمة الوحيدة التي يستطيع أن يتركها المرء خلفه في هذه الحياة.

ملاحظة: السرد المطول لا يعني كشف وقائع الفيلم لأن قيمته لا تكمن في السيناريو لكونه ليس فيلم مغامرة أو تشويق، بل في الحوار والتفاصيل التي تحدث بين البطلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.