شعار قسم مدونات

ومن قال أنّ إرضاء الناس غاية من الأساس!

blogs تسوق

خلق الله الأرض وما عليها، وخلق فيها كل ما يلزم الإنسان ليعيش حياة كريمة يستثمرها في التفكّر والتأمّل الذي يوصله في النهاية إلى الإيمان بهذا الخالق العظيم، خلق فيها كل ما يساعده على البقاء من طعام ودوّاب وهواء وماء وغيرها مما اكتشفه العلم ومما لم يكتشفه بعد، لكن شريطة أن يعمل الإنسان ويبذل الجهد ويسعى كي يحصل على هذه الهبات الموزعة في الأرض في انتظار من يكشف النقاب عنها.

   

ولأن الإنسان أفضل خلق الله والمخلوق الوحيد الذي كرّمه الله بالعقل والنفخ فيه من روحه، ولأنه مخلوق اجتماعي بطبعه فقد خلق الله لسيدنا آدم حواء لتؤنس وحشته، وخلقنا نحن البشر جميعا لبعضنا البعض بغية أن نؤنس وحشة الطريق الذي نسلكه في هذه الدنيا ونحن متجهين لوجهتنا الأخيرة ألا وهي الآخرة، وجعل كل إنسان ميسّر للآخر وميسّر لما خلق له.

 

ولله جلّ في علاه أسماء كثيرة منها الرزاق، النافع، الرافع، القوي، العظيم، الغني، وغيرها الكثير من الأسماء التي ينفرد بها عمن سواه. وفي عهد البشرية منذ الأزل من يحاول أن يأخذ ويتوسّل هذه الصفات (الرزق، النفع، الرفعة، القوة، العظمة، الغنى وغيرها) من البشر من حولنا، معتبرا من حوله هم اليد العليا وأنه هو اليد السفلى، طالبا في ذلك رضا في غير محله، وحُب في غير موضعه، وانكسار يخذل صاحبه أكثر مما يفيد، وكل هذا لأجل ماذا؟

 

كم خُربت بيوت بغية اللهْث وراء إرضاء الناس، وكم دُمّرت شخصيات ونفسيات بشر بُغية إرضاء بشر مثلهم، كم من زوجين تطلّقا بغية إرضاء الزوج لأهله أو الزوجة لأهلها دون إعمال للعقل الذي وهبه الله لهما

كي يقبله الناس ويحبّوه ويسمحوا له بالانضمام لقطيعهم المكرّر منذ أن خلق الله الأرض وما عليها، هذا القطيع الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: "قالو وجدنا آباءنا لها عابدين"، مخلّدا بذلك هذا الرد الساذج الذي يلغي أي اعتبار للعقل والمنطق إذ رفضوا الحق الواضح وضوح الشمس لما جاءهم ونكسو رؤوسهم متجهين مع القطيع الذي لا يعلم وجهته، مستظلّين بمظلة التقليد الأعمى إرضاء للمجتمع من حولهم الذي هو نفسه لا يعلم إلى أين يسير!

 

كل ذلك خوفا من الانسلاخ عن منطقة الراحة التي تجمع الجميع، ليس مهم لهؤلاء (الجميع) الهدف ولا الغاية ولا النتائج، المهم هو أن هناك مكان واحد يجمع نقاط ضعفهم متوّهمين أنها قوة لأنهم هم مَن أجمع عليها! وما مصطلح الإمّعة في ديننا إلا مثالا لذاك الذي يسعى لإرضاء هذا وذاك متلوّنا بشخصيات مختلفة كي ينال الرضا -المستحيل-كي يشعر بالأمان مع الجماعة، وحتى يبقى تحت جناحهم ولا يلفظوه من قطيعهم، ولكن هل حقا يستحق منا الناس أن نرضيهم بغية الإرضاء فقط؟ أم أنك حين تُرضي شخصا دون التفكير في عواقب هذا الإرضاء والهدف منه قد تخسر أكثر مما تكسب.

 

كم خُربت بيوت بغية اللهْث وراء إرضاء الناس، وكم دُمّرت شخصيات ونفسيات بشر بُغية إرضاء بشر مثلهم، كم من زوجين تطلّقا بغية إرضاء الزوج لأهله أو الزوجة لأهلها دون إعمال للعقل الذي وهبه الله لهما، وكم من طفل دُمِّرت شخصيته ارضاءا للناس من حوله الذين لا يروق لهم حركته وأسئلته واستفساراته الكثيرة الطبيعية! كم امرأة تشوّهت من الداخل إرضاء لزوج أرادها كفلانة من نجمات السينما فلم تتوقف عن عمليات التجميل إلا بعد فوات الأوان لأن من حاولت إرضاؤه لم يرضى، كم امرأة ذابت في مجتمع ليس مجتمعها دون تمييز لما فيه كي يتقبلوها وتصبح واحدة منهم وواكبت كل ما فيه من خير وشر فذابت مع صرعاته وموضاته وانحلاله حتى نظرت في المرآة وقالت: من أنا؟

 

كم من ديون تراكمت وقروض استُدينت من البنوك لشراء منزل أو سيارة فخمة، لأجل مَن؟ لأجل إرضاء الناس من حولنا وإن كانت حججنا في الظاهر لا تمتّ لهذا الهدف بصلة، ولا نلبث بعدها أن نتوقف عن اللهاث لسدادها والتي قد لا تنتهي حتى بعد وفاتنا، كم من أوقات ضُيّعت وتناثرت هباء منثورا بالوقوف أمام المرآة للاهتمام بمظهرنا -المبالغ فيه-إرضاء للناس في العمل وللحفاظ على صورتنا المزيّفة أمام الناس، كم من مناسبات صُرف عليها الملايين بغية التفاخر والتباهي وإرضاء لطبقة مستهدفة من الناس- ويا ليتهم رضو- ولو صرفت على بطون الجائعين لرضو بلا أدنى شك في ذلك، كم من وجوه تبدّلت لمصلحة أمامك وكم من لحوم نُهشت بالنميمة والغيبة في غيابك.

 

تذكر أيضا، أن تكون مختلفا يعني أن تكون أقوى لأنك تملك ما لا يملكه الجميع من اكتفاء ذاتي

كم من حياة لم نحياها إرضاء لهؤلاء الناس، وكم من حياة لن نحياها ما دمنا في صراع مع أنفسنا لإرضاء الناس أيضا، إرضاء الناس لا ينبغي أن يكون غاية من الأساس ما دامت هذه الغاية لن توصلنا لشيء سوى الصراع مع الذات والزمن لنكون بمقاييس ومعايير فرضوها علينا ونحن قبلناها بإرادتنا، هي كالمشي في طريق بغير هدى فلا يزيدنا الإقدام فيه إلا ضياع فوق الضياع.

 

ومع حرص ديننا الجميل على علاقات البشر ببعضهم والأجر في خدمة بعضنا البعض -إن وجدت النية الصافية- لكن حتى في توصية الدين بالوالدين أنت ملزم بالإحسان لهما ومصاحبتهما بالمعروف وطاعتهما بما يتماشى مع الفطرة السليمة ولكنك لست ملزم أبدا بإرضائهم إن كان إرضاؤهم ضرره أكبر من نفعه، نحن ملزمون بالبر والإحسان والمبادرة الطيبة حتى لو كان ما نفعله بلا دافع الحب لكننا نفعله برضا وسعادة لأن بداخلنا دافع أكبر منه ألا وهو إرضاء الخالق عز وجل، الذي لا أحد يستحق إرضاؤه إلا هو، هذا مع والدينا الذين نحبهم أكثر من أرواحنا، فكيف هو الحال في إرضاء من هو أساسا ليس من دائرة أرحامنا ويعتبر أن إرضاؤه إلزام.

 

وإذا حدث وأردنا أن نرضي الناس فلنتفحّص بداية هؤلاء الناس ونفسياتهم وعقلياتهم ومكانتنا في قلوبهم وحفظهم لنا في غيابنا قبل حضورنا، ووجودهم إلى جانبنا في المواقف الصعبة في الحياة التي تحتاج لأصحاب المبادئ والقيم وليس لأصحاب المصالح والذمَم، عندها سنعرف النخبة التي تستحق الحفاظ عليها، وسنعلم عندها أن من أمامنا يستحق أن نضعه ضمن من نسعد لإسعاده وليس فقط لإرضائه، فأن تُسعد شخصا فهذا يرقى إلى أعلى من أن ترضيه لأنك تشعر معه بالحب والأمان والسعادة والطمأنينة التي ستكون محركك ودافعك الرئيسي للحرص على كل شيء جميل قد تقدمه له وهؤلاء الناس نقول فيهم: إسعاد الأحبة سعادة نهديها لأنفسنا في المقام الأول، وعليه تصبح واجبة لما تتركه من أجمل الأثر في نفوسنا وما حولها.

 

ولا تنسى أن كونك مختلفا من وجهة نظر من حولك يعني أنك مميّزا من وجهة نظر نفسك، وتذكر أيضا، أن تكون مختلفا يعني أن تكون أقوى لأنك تملك ما لا يملكه الجميع من اكتفاء ذاتي تلجأ إليه عندما يلجأ الجميع للقطيع ليعطيهم ما ينقصهم من أي شيء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.