شعار قسم مدونات

التوحد وأنا (3) في لُجَّةِ الألم يشرق الأمل

BLOGS توحد

حقًا إن المصائب لا تأتي فرادى، فما إن بدأت أتقبل فكرة التوحد حتى أطلّت على مشكلة أخرى، لا تقل ثقلًا عن سابقتها.. الصرع !

 

سرعان ما بدأت دوامة التناوب على الأطباء والمواعيد والتحاليل. تناثر أماكن العيادات والمشافي زاد من استنزافي، حيث إن أقرب مشفى كنا نرتادها كانت على بعد ساعتين ونصف بالسيارة من مكان سكني في النرويج، سنةٌ مريرةٌ غرقت فيها واستنزفت جزءا كبيرًا من وقتي وتفكيري، حيث أشارت التحاليل الأولية إلى وجود خلل ما، واحتمالات وجود الصرع معها تزيد لا تنقص! في نهاية السنة مكثنا أسبوعًا في مستشفى الصرع التخصصي، حصلنا في نهايته على النتيجة القاطعة: داود لا يُعاني من الصرع بأي شكلٍ ولله الحمد، لكن الدلالات كلها كانت تشير أن علينا المضي في طريق آخر، إذا أردنا أن نحصل على إجابات لحالات التشنج العضلي وليس العصبي التي تنتابه، التشخيص الرسمي للتوحد.

 

مضيت بالقراءة والبحث حتى وقعت يدي ذات يوم على فرضية علمية تقول بأن "المعادن الثقيلة هي السبب الرئيسي وراء التوحد وفي مقدمتها الزئبق".، كانت تلك الفرضيةُ بمثابة الشرارة التي حوّلت مساري

في خضمّ تلك الدوّامة المُوجعة كنت أحاول أن استقطع شطرًا من الوقت القليل المتبقي لأطور من مهاراتي كأب، فقد كنت أحيانًا أقف عاجزًا عن فهم ماهية تصرفات داود ودوافعها، التحقت ببعض الدورات التربوية التي تقدمها مؤسسة  (Hand in hand parenting)، حيث استطعتُ معها أن أخفف من عدوانيته التي اشتكى منها بعض أقرانه، كما نجحتُ بالحصولِ على تعاونه خاصةً فيما يخص روتين الصباح وتناول الطعام والنوم. أثلج صدري حقًا، أن الجهود التي أبذلها لأجله كانت تؤتي أُكُلَهَا، فهو يتطور على مدار أشهر باستمرار، فالسُلوانات مهما صغرت وقت البلاء تترك أثرها في النفس.

 

فجأة، وحين صار عمر داود سنتين وعشرة شهور بدأ بالتراجع؛ نسي الحروف دفعة واحدة وزاد انطواؤهُ على ذاته. وأنا المكلوم بدأت أبحث بِنَهَمٍ في الأبحاث، وأقرأ النظريات السائدة والمنتشرة في العالم، وكلما أوغلت في البحث أظلم قلبي وزاد همي، وكأن الأطباء والباحثين من مشارق الأرض ومغاربها أجمعوا على أن التوحد هو اضطراب لا سبب معروف له ولا علاج!! غير أن صوت همسٍ في داخلي يقول لي أن الكلام ليس دقيقًا تمامًا، وبخاصةٍ أن قناعاتي كباحث متخصص في الطب الحيوي، فيما يتعلق بمدرسة العلاج الغربية قد بدأت تتغيرُ في الآونةِ الأخيرة.

 

وبدأت أرى أن مدرسة الطب الغربي التقليدي (Conventional Western Medicine)، تتعاطى مع أي موضوع طبي بنظرةٍ جزئية وليست شمولية كما يجب، استمررتُ في البحث ومطاردة الهواء عن أي طرفِ خيطٍ قد يقودني إلى علاج! طاقة عجيبة التي كانت تُحرّكني وتجعلني أمضي الساعات والأيام في البحث والدراسة دون أن أشعر، وعندما أقول خطة للبحث عن علاج فإنني أقصد علاجًا "بيولوجيًا" وليس علاجًا "سلوكيًا".

 

أحد الأمثال السويدية التي أعرفها يقول "Den som söker han finner"ويعني أنك "تجدُ ما تبحثُ عنه"، فلو ملأَتكَ رغبة لأمرٍ ما ستجده وتجد حتى المبررات له، وقد وجدتُ حقًا خيطًا قادني لما أبحث عنه.. كان علاجا مطروحًا مثيرًا للجدل، فغالبية من قرأت لهم قالوا إنه لا يعمل بكفاءة عالية إلا أن الغريق يتعلق بقشة أو أدنى من ذلك، أحضرتُ كل المطلوب لبدء تلك التجربة، كان العلاج ذا طعمٍ سيء غير مستساغ لدى داود المزاجي أصلا في تقبل وتناول الأشياء والأطعمة

 

توقفت بعد أسبوع .. وقد عدتُ مجدّداً لتلك النقطة المظلمة التي انطلقت منها قبل أشهر. اليأسُ وقتها كان رفاهيةً لا أمتلكها، أو بالأحرى لم يكن لديّ وقتٌ لأعتنقه!، استمررتُ بالبحث العميق حتى بدأت أميل إلى بعض الأبحاث التي تربط بين وجود طفرات جينية معينة وبين التوحد، قلت في نفسي، إذا كان الجوابُ في "الجينات"! لماذا لا أقوم بعمل تحليل جيني لداود والبحث عن هذه الطفرات؟! بالفعل قمت بعمل تحليل جيني كلي (Whole Genome Analysis)، وعكفت على تحليل النتائج ومقارنتها بالأبحاث الموجودة. كانت خلاصة ما وصلتُ إليه أنه حتى مع وجود طفرات في جيناته مرتبطة بالإصابة بالتوحد، إلا إنها لا يمكن أن تكون وحدها كافية بأي حال للتسبب فيه، قد تكون عاملًا مساعدًا لكنها قطعًا ليست السبب الأصلي.

  

مضيت بالقراءة والبحث حتى وقعت يدي ذات يوم على فرضية علمية تقول بأن "المعادن الثقيلة هي السبب الرئيسي وراء التوحد وفي مقدمتها الزئبق".، كانت تلك الفرضيةُ بمثابة الشرارة التي حوّلت مساري وأخرجتني من الكهف المظلم الذي دخلته لأشهر، إلى عالمٍ أرحب عنوانهُ الأمل.. الأمل! الذي بدأ يتلاعب بي مجددًا، فتعلقت بالقشة الجديدة بفرح، وأنا أمني نفسي أن يحمل الوقت القادم في طياته الخلاص.

يتبع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.