شعار قسم مدونات

الإفراط في الإدراك.. تحرر للعقل أم طريق للضياع

BLOGS تأمل

الإفراط في الإدراك هو ألعن مرض مزمن يمكن أن يصيب شخص ما وهو أن تطلق العنان لعقلك لينفتح على المباح والمحظور لدواعي العمق واللانهاية التي تتعارض مع المحدودية النسبية للعقل البشري. هو الانفتاح على كل الأبعاد الأنطولوجية المطلقة واللامتناهية، وهي السعي إلى الإحاطة علما بكل ما هو موجود وجمع جميع الموجودات في خانة الإدراك لرسم خارطة اليوتوبيا التي تقود إلى السيطرة على كل نهايات الكون ومخرجاته التي تنفتح على البدايات المؤدية إلى العالم الآخر.

   

الإفراط في الإدراك هو الخوض في الماورائيات والتفاصيل الدقيقة داخل وخارج الأطر الكونية، هو البحث في طبيعة الشئ واللاشئ، في الموجود واللاموجود، في المكان والزمان، في الماهية والكيفية والظرفية والسببية التي ترتبط بكل تفاصيل الحياة.

  

الأفكار تقتحمنا دون إذن، تراود العقل غالبا في لحظات العزلة والتجلي. وحتى نحافظ على التوازن النفسي، وجب تغييب العقل أحيانا، المرواحة بين الإدراك، اللامبالاة والعاطفة

هو ضرب من الميتافيزيقا وهو نبذ النهايات والمسلمات والنبش في حقيقة اللاملموس وكل ما يسمى بالحقائق التي سميت كذلك بفعل التوافق عليها من قبل العامة وبرعاية النظريات ومعادلات الحرب الوجودية التي يحددون عناصرها في دور الخصم والحكم في نفس الوقت… هنا تتدخل الأهواء والمصلحة في السيطرة على المعادلات والإحاطة بها لتزييف تاريخ البشرية ورسم مستقبلها بهدف السيطرة على الأفراد وتطويقهم في دائرة الخضوع للثقافة المجتمعية السائدة وسلطة العادات والتقاليد وسلطة الأسطورة والذاكرة الوهمية التي صارت تتصدر المشهد الوجودي.

 

هؤلاء هم رعاة الإمبريالية الفكرية والطغاة، أصحاب السلطةالذين يريدون إستعمار أفكارك، كل من له سلطة عليك يستبيح حرمة تفكيرك، يقيدك في باحة السائد والموجود. هؤلاء موجودون بكل تفاصيل حياتك، الجميع يريدك أن تكون سطحيا لا تتجاوز القشرة الأولى للحياة الروتينية. لذلك تبدو فلسفة الانفصال عن القطيع بالنسبة للبعض ضرورة حتمية وهي ضرب من تحرر العقل لتثمين القيمة المعيارية للوجود.

 

من جهة أخرى ونظرا لمحدودية العقل البشري، الإفراط في الإدراك والتعمق في ماهية الأشياء قد تلقى بك في مفترق الجنون والتوهان لذلك لا تتعمق كثير ا لأنك ربما تدخل في متاهة اللاعودة وتضيع البوصلة فتضل طريق العودة إلى الذات، ولكن ما الذي يجر العقل إلى هاته المتاهات! إنه الهوس بالمعرفة وبخباياها. إنها الفطرة البشرية المبنية على التساؤل والرغبة في الاستكشاف والتحدي.

 

لتجنب التشرذم والزندقة، وجب السيطرة على العقل وكبح جماحه أحيانا، لكن من سيفعل ذلك وهو في حد ذاته مصدر البدايات! من الذي يسبق فكرة على فكرة في أولويات العقل؟  ربما التسلسل المنطقي أو الضرورة الملحة للتعامل مع الحينيات، ربما سرعة البديهة أو ربما العاطفة والمشاعر أحيانا أو ربما الحظ هو الذي يلعب دوره ليس إلا. المؤكد أن العقل نفسه هو السلطة التي تراقب نفسها.

 

الأفكار تقتحمنا دون إذن، تراود العقل غالبا في لحظات العزلة والتجلي. وحتى نحافظ على التوازن النفسي، وجب تغييب العقل أحيانا، المرواحة بين الإدراك، اللامبالاة والعاطفة…. فواصل من الحضور الذهني والغياب، هنا يأتي دور المشاعر، الروحانيات والسلطة العقائدية للسيطرة على الانفلات الفوضوي للمشهد حين تغزوه المغالاة في التفكير.

 

العاطفة والثوابت العقائدية هي التي تحررك من كل هذا. هناك ثوابت لا تستدعي البحث فيها بل هي مصدر الطمأنينة والتوازن النفسي وهي الدين والأخلاق والعاطفة كمثل عليا لا تقبل الخوض فيها، هي ميثاقك بينك وبين نفسك وهي المرجعية الأولى التي تتفرع منها عناصر اليوتوبيا.

 

التوازن النفسي يستدعي كذلك المزج بين اللامبالاة أو التفاهة والجدية للحفاظ على توازن العقل. لا ننكر فضل التفاهة أحيانا التي تحررنا من سجن الميتافيزيقا. قليلا من التغابي كي نضمن الاستمرارية في السلطة على مملكة الوعي والإدراك، فقط الأغبياء هم السعداء جدا أما الجديون حد المغالاة في ذلك تلفظهم الحياة سريعا أو تتقاذفهم الأفكار نحو دائرة الجنون.

 

تاريخ الإنسان هو فواصل من الثنائيات المتباعدة، فواصل من موت وحياة، فواصل من وعي كلي أو غياب عن كل شيء، فواصل من ذات ملائكية أحيانا ونفس سيئة أحيانا أخرى ومع ذلك لكل منا خصوصياته التي لا يتقاسمه معه أحد، هي عبارة عن بصمة الإصبع التي ينفرد بها كل إنسان عن غيره. تلك هي المعادلة الكونية التي تكمن في التأرجح بين الثنائيات شرط المحافظة على الخصوصية، المرجعية والثوابت وهكذا هو الوجود عامة حتى لا نحمل أنفسنا وزر كل ما يحدث خارج إطار اليوتوبيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.