شعار قسم مدونات

بدر شاكر السيّاب.. سحر قلم!

blogs بدر شاكر السياب

هناك بين صفحات كتاب اللغة العربيّة في المرحلة الثانويّة قبل أربعة سنوات من الآن تقريبًا كان اللقاء الأول، كانت المرّة الأولى التي تعانق بها عيناي حروف الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، أذكر انبهاري وقتها جيدًا من دقّة وصفه وبلاغة حروفه وقوّة كلماته مع بساطتها، كانت القصيدة الأولى التي أقرؤها له، وبحكم وجودها في منهج الدّراسة الأردني كان مطلوبًا منّي فهمها جيدًّا ومحاولة الوقوف على المعاني التي قصدها قلبه قبل قلمه في كلّ حرف فيها، اجتهدنا وحلّلنا عشرات المعاني المُحتملة، ولكن في الحقيقة مهما حاولنا لن نصل للمعنى والشعور الحقيقي الذي قصده الكاتب وهنا يكمن سحر الشعر.

 

كانت القصيدة "غريب على الخليج" مثقلة بالألم ومتزفة بالوجع ومشبعة بالقهر بشكلٍ لن أنصفه مهما كتبت، إذ خطّ بها شوقه لبلده العراق الذي أبعد نفسه عنه خوفًا من السجن وذلك بعد ملاحقته من قبل السلطة لانتمائه لفترة من الزّمن للحزب الشيوعي.

 

يقول في أبياتها:

"صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق

كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي عراق

والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق ‍‍

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون

والبحر دونك يا عراق"

 

هذه الحروف الصادقة، احتلت بدايات القصيدة، ويبدو جليًّا الألم والشوق اللذان يعتصران قلب السيّاب وهو يشعر بحرقة البعد عن وطنه العراق. انتباتني مشاعر التعجّب هنا تحديدًا من قوّة العاطفة تجاه الوطن فبين ثنايا هذه القصيدة تشعر بتعلّق الشاعر بوطنه، كتعلّق الطفل بأمّه وتعلّق العاشق بمعشوقته، وكلا المثالين استخدمها الشاعر وربطهما بحبّه لبلده في قصيدته.

  

"أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه

يا أنتما – مصباح روحي أنتما – وأتى المساء

والليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه

لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء

شوق يخضّ دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء

جوع إليه.. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء"

 

أحبّ الوطن بطريقة مخيفة، بطريقة لا تتقبّل فكرة الخيانة بتاتًا، لا تتقبل الفكرة قبل الفعل ويقول فيها:

 

"إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام – هناك أجمل، فهو يحتضن العراق"

 

نجح بصدق في ربطْ عاطفتي الأمومة والعشق بحبّ الوطن فأنتج إحدى أجمل قصائده وأكثرها تأثيرًا في نفس القارئ؛ غريب على الخليج.

 

يقول السيّاب في مطلع قصيدته أنشودة المطر:

"عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقص الأضواء … كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر"

 

كلّ هذه الرقّة في الغزل، وكلّ هذه المشاعر حوتها الحروف منها ما قد وصل إلينا كقرّاء ومنها ما لم يصل، بعضها قد أوردها السيّاب في كلماته علانية وبكلّ وضوح، وبعضها أرفقه سرًّا بين ثنايا الكلمات وبين مقاطع شعره، شعر التفعيلة.

 

على الرّغم من كلّ الظّروف الصعبة والمستحيلة التي عاشها السيّاب، والقارئ في سيرته والمطّلع عليها يعرف كم عانى وكم تعب في حياته، إلا أنه أيضًا أبدع في مواساة نفسه ورفع معنوياته، لتظلّ حروفه في قصيدة سفر أيوب ضمادًا لجروحه وجروح كلّ من يمرّ في ظروف صعبة من بعده، يقول فيها:

 

"لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبدّ الألم،

لك الحمد، إن الرزايا عطاء

وإن المصيبات بعض الكرم.

ألم تُعطني أنت هذا الظلام

وأعطيتني أنت هذا السّحر؟

فهل تشكر الأرض قطر المطر

وتغضب إن لم يجدها الغمام؟"

 

أبدع في الحبّ، وأبدع في الغزل، احترف عشق الوطن وتشربّه، لم ينس المواساة وبالطّبع كان لقلمه بصمة في المناجاة وقصيدته (أمام باب الله) خير دليل على ذلك إذ نظم فيها:

 

"منطرحا أمام بابك الكبير

أصرخ في الظلام أستجير

يا راعي النمال في الرمال

وسامع الحصاة في قرارة الغدير

أصيح كالرعود في مغاور الجبال

كآهة الهجير

أتسمع النداء؟ يا بوركت تسمع

وهل تجيب إن سمعت؟"

 

السيّاب، هذا العظيم الذي أضاف للعربية رونقًا لن تنساه، هذا الرّجل الذي كان له الدور الأبرز في تأسيس مدرسة الشّعر الحرّ، وكسر قواعد كانت متأصلة وراسخة حول الصّورة النمطية التي يجب أن تكون عليها القصيدة العربيّة كي تحظى باستحقاق القراءة والمتعة، في شعره أثبت شاعرنا للجميع أنّه لا يوجد قيود على المشاعر والأحاسيس في التعبير عنها، فالشعور الصّادق يغلب كلّ شيء دائمًا، يكسر المُعتاد، سرّ الكتابة في البوح لا في نمط معيّن يفرضه أحدهم.

 

أؤمن أنّ الشعراء يستطيعون نظم كلّ ما يخالجهم من مشاعر بسهولة، بل وحتى لديهم القدرة على كتابة ما لا يشعرون به فهم أصحاب موهبة، إلا أنّك في بعض الحروف كحرف شاعرنا تلمس صدقًا حقيقيًّا ومشاعر غير مصطنعة، تشعر بنبضات الكاتب بين نقاط الحروف، وترى رجفة قلبه بين الكلمات، تلحظ لمعة عينيه بين السطور، وتحسّ ببلل دمعاته حقيقة على الورق، لم تكن كلّ قصائد الشعراء مجرّد حروف مرسومة، بعض القصائد تحمل في داخلها أسرارًا دُفِنَت مع كتّابها، وبعض القصائد كُتِبت غزلًا لإحداهنّ شخصيًّا بعد أسرها لقلبه، وبعضها كُتِب بعد بكاء طويلٍ وشعور مؤلم بالوحدة والاحتراق.

 

مع زخم انتشار الكلام المبتذل في التعبير، واندثار ثقافة متابعة القصائد وقرائتها بنهم كالسابق، أتعجّب من هول العواطف التي تضيع علينا من عدم دراسة هذا البوح، وأتأسّف على جيل كامل لن يتذوّق هذا الجمال الذي نفتقده بشكل كبير نحن الآن أيضًا! كيف يُذْكَرُ اسم السيّاب ويمرّ عليه مرور الكرام دون الاستمتاع ببوحه والاطّلاع عليه بشغف. لكنْ وعلى الرغم من كلّ هذا لا يزال البعض مهتمًّا ومطّلعًا، فللسيّاب الآن بعض القصائد مغناة لمن لا يفضّلون القراءة في الدرجة الأولى.

 

ها هو السيّاب كما رأينا في بعض المقاطع البسيطة التي أردفتها في المقال -و هي لا تمثّل شيئًا من قصائده الكثيرة-، يسطّر أروع مثال لصدق الشعور الذي رافق قوّة الكلمة وعمق تأثيرها فقد تفوّقت قصائده في سحرها على الكثير من القصائد العاديّة وتفوّق قلمه على عشرات الأقلام التي اشتهرت وانتشرت في ذاك الزمن وحتى زمننا هذا.

 

ما زالت قصائده وستبقى ملاذ الكثيرين من متذوّقي الأدب العربي، وما زالت حروفه مدرسة في الرّقة ورهافة المشاعر حتى الآن ولا أحسبها ستختفي، الحروف تبقى وتعيش حتى وإن مات كتّابها، وكما العين تقرأ العين وتميّز صدقها من كذبها، تميّز العين الحروف الصادقة أيضًا وتعرف كلّ شعور حقيقيّ لا ابتذال فيه وفي النهاية وكما أسلفت سابقًا سيبقى دائمًا سرّ الكتابة في رقّة البوح لا في نمطية معينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.